راحت أيام الـ 25 ليرة.. “الخرجية” اليومية للأبناء عبء ثقيل لا يشعر به إلا ذوو الدخل المحدود!
مع تنفس كل صباح، ينتظر الأطفال ذلك المبلغ اليومي الذي من المفترض أن ينالوه من الآباء ليشتروا به ما يرغبونه من “دكان” الحارة، هي عادة متوارثة من عقود تسمى “الخرجية”، ولكن حتى هذا المبلغ البسيط بات يشكّل عبئاً على الكثير من الأسر، خاصة في موسم المدارس، فماذا يفعل الأب الذي عنده أكثر من ولد في المدرسة، وأبناء في الجامعة لتأمين مصروفهم اليومي؟!.
حق مشروع
في علم التربية يقال إن الأطفال يتعلّمون طلب “الخرجية” من عمر ثلاث سنوات، ومع مرور الزمن تصبح حقاً من حقوقهم المشروعة ولا يسامحون بها، ما يشكّل عبئاً على ذوي الدخل المحدود، أو الآباء من غير الموظفين، في هذا الصدد تؤكد الدكتورة جمانة خزام، /علم نفس/، أن للمصروف اليومي الذي يحصل عليه الأبناء دوراً في تنمية القدرة على اتخاذ القرار وإدارة الذات، فمنح الطفل مصروفاً يومياً ينمي لديه مفهوم الملكية والخصوصية، ويشعره بالحرية في إنفاق مصروفه بالشكل الذي يراه مناسباً ووفقاً لاحتياجاته ورغباته، وأضافت، كان السؤال الذي يراود مقدمي الرعاية للطفل: ما هو المبلغ المناسب الذي يمكنني تحديده كمصروف يومي لطفلي؟ ذاك السؤال الذي تقتضي الإجابة عنه معرفة العوامل المختلفة المحيطة بالطفل، الاجتماعية منها والاقتصادية، والمتعلقة به كعمره على سبيل المثال، أما اليوم في ظل الضغوط الاقتصادية الصعبة فزادت الأعباء على كاهل مقدمي الرعاية، وأصبحوا في غالبيتهم غير قادرين على منح أطفالهم مصروفاً يومياً، لأن المبلغ الذي كان “مقدوراً عليه”، أصبح حده الأدنى اليوم عبئاً عليهم ولا يمكن تحمّله: “الله يرحم أيام الـ 25 ليرة التي كانت تشتري ما لذّ وطاب للطفل”.
45 ألفاً !!
واقع الحال يشير إلى أن القلة القليلة من أبناء هذا الجيل “جيل الحرب” تنعم بمصروفها اليومي وتذهب لشراء ما لذ وطاب، لكن الغالبية الكبرى من الأطفال بات مصروفها اليومي عبئاً ثقيلاً على تلك الأسر التي تسعى لتأمينه وتأمين قوتها اليومي في ظل الوضع المعيشي المتردي، وقد لا تعني قيمة “الخرجية” شيئاً أمام استمرار وجودها بشكل يومي، فقد يكتفي الآباء بمنح ولدهم 200 ليرة يومياً- حسب قدرتهم- ولكن غالباً قد يبلغ معدل المصروف اليومي للطفل 500 ليرة سورية وسطياً، ما يعني أن “خرجية” ثلاثة أولاد 1500 ليرة يومياً، وفي الشهر تبلغ نحو 45 ألف ليرة، وهو ما يعادل نصف راتب موظف!.
تضخم كبير
خبراء الاقتصاد يرون أن “مصروف الجيب” في ظل الوضع الاقتصادي الحالي للأسر لا غرابة أن يحتاج لدراسة الواقع الاقتصادي العام من كافة الجهات، ولا يمكن الحديث عنه إن لم يتم الأخذ بالأسباب، وهنا يؤكد دكتور الاقتصاد محمود كدالم حالة التضخم الكبير الذي يشهده الاقتصاد السوري حالياً، وانخفاض القوة الشرائية بشكل غير مسبوق نتيجة العقوبات الجائرة، جنباً إلى جنب مع جشع وطمع نسبة كبيرة من التجار والصناعيين والمستوردين، إذ يتم تسعير أو بيع عدد كبير من المواد على أساس سعر صرف يفوق حتى ذلك الشائع في السوق السوداء، علماً أن سعر الصرف المعتمد في مصرف سورية المركزي بحدود 2500 ليرة، بمعنى أن بعض التجار يقومون بشراء الدولار من البنك المركزي بحدود 2500، وعند الاستيراد وبيع منتجاتهم في السوق المحلية يتم تسعير تلك المنتجات على سعر يزيد عن ذلك بكثير، وهنا نجد الارتفاع الهائل بالأسعار، والتساؤل الذي يكاد يكون موحداً لدى غالبية الناس عن سبب هذا الارتفاع في الأسعار في ظل ثبات سعر الصرف نوعاً ما؟!.
فجوة هائلة!
يرى الدكتور كدالم أن موضوع “الخرجية اليومية” يعتبر من المواضيع التي تتضمن إحراجاً كبيراً في التكلم عنها لبساطتها، وانخفاض عبئها الاقتصادي على الأسر سابقاً، إلا أنها أصبحت اليوم تشكّل عبئاً كبيراً لا يستهان به، موضحاً أن أصحاب الدخل المحدود، خاصة موظفي القطاع العام، من أكثر الفئات التي تتحمّل عبء هذه المصاريف على اعتبار أن لباقي الفئات من ذوي الأعمال الحرة هامشاً جيداً في زيادة أجورها ودخلها، واعتبر كدالم أن الأسرة المكوّنة من خمسة أشخاص تحتاج شهرياً لنحو 700 ألف ليرة سورية على أقل تقدير، وبالتالي فإن الأسرة التي لديها ثلاثة أولاد في التعليم الثانوي وما دون تحتاج إلى 1200 ليرة “مصروف جيب” يومياً بالحد الأدنى، أي بحدود 400 ليرة للطفل الواحد، ما يعادل 24000، أي حوالي خمس راتب الموظف، ويعتبر هذا المبلغ كبيراً جدا بالنسبة لنوعية هذا المصروف، خاصة أننا لم نأخذ بعين الاعتبار المصاريف الأخرى المتعلقة بالطلاب كالنقل والدراسة، وبالمقابل نجد أن الموظف العمومي يتقاضى مع راتبه وبشكل شهري تعويضاً عائلياً عن الأولاد الثلاثة يكاد لا يذكر رغم رفع قيمته مؤخراً لحوالي الـ 4000 ليرة، وهنا- حسب كدالم- يتبيّن لنا مقدار الفجوة الهائلة التي يعاني منها محدودو الدخل من “الخرجية اليومية” لأبنائهم دون احتساب المصاريف الأخرى، وهذا الأمر لا يمكن تجاوز نتائجه وآثاره السلبية المترتبة عليه من جهة عدم التزام الأهالي بإرسال أولادهم للمدارس، وربما أكثر من ذلك أن يتم إرسالهم للعمل للتخفيف من تلك الأعباء المادية، إضافة إلى الآثار النفسية الكبيرة على هؤلاء الأطفال.
التداعيات على الطفل
وبالعودة للدكتورة جمانة خزام، تؤكد أن عدم حصول الطفل بشكل خاص على مصروف يومي لعدم قدرة والديه على منحه إياه قد يترك آثاراً سلبية في شخصيته وصحته النفسية، ويشعره بالنقص والحرمان، لاسيما عند وجود الطفل في بيئة اجتماعية متفاوتة طبقياً، فيرى أطفالاً يشترون الحلوى والمأكولات الشهية وهو غير قادر على فعل ذلك!.
اضطراب نفسي
لا تقتصر الآثار النفسية السلبية لعدم منح الطفل مصروفه على نفسه فقط-حسب خزام- بل تمتد لتشمل مقدمي الرعاية “الآباء والأمهات”، فذلك يجعلهم يشعرون بالذنب وعدم الكفاية لجهة عجزهم عن تلبية احتياجات صغارهم، الأمر الذي ينعكس سلباً على ثقتهم بأنفسهم وتقديرهم لذاتهم، وقد يتطور الحال لدى البعض ليصل إلى الإصابة باضطراب نفسي كالاكتئاب!.
إدارة مشتركة
وكي لا نغرق في السلبيات، وننسى الحديث عن الحلول والوسائل التي تقلل من حجم الخسائر الناجمة عن عدم القدرة على منح الطفل في المدرسة أو الطالب في الجامعة مصروفاً يومياً، تؤكد خزام أن إشراك الابن، صغيراً كان أم كبيراً، واطلاعه على بعض التفاصيل المتعلقة بمصروف المنزل، وإدارة عمليات التسوق وشراء الحاجات الأساسية، يمكن أن يلعبا دوراً هاماً في تدريبه على إدارة المال والتعامل معه، وتعليمه الإنفاق ضمن حدود معينة تتناسب مع إمكانياته حتى لا يتحول إلى شخص مسرف وغير مسؤول ينفق أمواله دون حساب، ويلجأ للاقتراض من الآخرين .
أخيراً، شئنا أم أبينا، بات المصروف اليومي للأبناء في المدارس والجامعات عبئاً ثقيلاً مقيتاً لا تقدر الأسر على تحمّله، ويكاد يوازي أعباء المعيشة اليومية، الأمر الذي يحتم على الآباء ضرورة شد الأحزمة والتقشف للخروج بأقل الخسائر، وهنا سأل البعض: كيف يتساوى منح تعويض شهري عن الطفل بمقدار 1500 ليرة من الحكومة، و”خرجيته” الشهرية من ذويه قد تتجاوز الـ 15000ليرة؟!.
ذكاء أسعد