لغز استئجار العقول
غالية خوجة
في زمن لم تعد تعتمد فيه الخصوصية على أدنى حدّ من خصوصيتها، صار من الممكن استئجار الأدمغة واستثمار العقول في الأحياء والأموات على حدّ سواء!.
ولأن لهذا الزمن موبئاته العظمى، تحوّلت الصغائر إلى كبائر لأسباب عديدة أهمها استبعاد القانون الإنساني الأخلاقي بين البشر، وهذا الاستبعاد بحدّ ذاته خطيئة عظمى، ولذلك انتشرت ظاهرة الروبوتات القابلة للتناسل، وتجربة الاستنساخ الحيّ، واستخدام الأنسجة الحيّة في تصنيع الآلات التكنولوجية، وإرسالها إلى الفضاء في معركة مضادة للشيخوخة، وكل ذلك وسواه تحت عنوان عريض “الثورة التقانية– التكنولوجية” و”اكتشاف الفضاء” قبل “اكتشاف الإنسانية والأرض”!
وكلامي لا يعني سوى أن نكون ضد سلبيات العصر التكنولوجي من خلال توظيفه لكل سيئ وشرير من قبل غالبية البشر، فـ “ما ينفع الناس يمكث في الأرض”، وانتشرت ظاهرة المتاجرة بالأعضاء البشرية وكأنها قطع تبديل، وتوازى معها انتشار تجميد البويضات والنطاف، ولم تتوقف البشرية عند ذلك لأنها دخلت في مجالات أخرى يتحفنا بها العلماء والبحاثة والمخترعون، ومنها علم الاحتفاظ بالجسد وأجزائه لأزمنة، ثم زراعته في أجساد جديدة لمن يرغب أو لا يرغب، وهذا المجال يخبرك بأنك من الممكن أن توصي بالاحتفاظ بدماغك مثلاً، لتتمّ زراعته في رأس إنسان آخر بعد 500 عام، ليجري العلماء تجاربهم عليه، مجيبين عن أسئلتهم بكيفية تفاعل الدماغ ومعلوماته وحياته وذكرياته وأحلامه مع الجمجمة الجديدة التي تفصل بينها وصاحب الدماغ 500 سنة على سبيل المثال!
وفي هذا المجال ماذا لو أن أينشتاين ونيوتن والمتنبي وابن النفيس كانوا قد أوصوا بالاحتفاظ بأدمغتهم لإنسان يعيش في زمننا، أو بعد ألف سنة قادمة؟!.
لك أن تتخيّل الإجابات المحتملة يا قارئي العزيز، وأنت تتابع معي استئجاراً من نوع آخر للأدمغة والعقول والذكريات والحياة، نعيشه في واقعنا منذ أزمنة، لكنه واقع مستتر للغاية، لأن السرية أساسه بين صاحب الدماغ كمؤجر وصاحب الصفقة كمستأجر وفي كافة المجالات، سواء من خلال الأدب أو العلوم أو الفنون، فهناك الكثيرون بيننا في هذا العالم يبيعون عقولهم، أو يؤجرونها، مقابل الأموال، أو مقابل شروط أخرى مادية وغير مادية، منها أن الكاتب الحقيقي هو صاحب العقل الذي باعه أو استثمره أو أجّره لغيره مقابل شيء ما، بينما المشتري يبرز ككاتب أو فنان أو عالم منتج، له أعمال قد تبقى مدة لا بأس بها، فتنطلي “الكذبة– الخطيئة” على كثير من الناس والوقت إلى أن يتمّ اكتشاف الحقيقة مصادفة أو من خلال البحث والتقصي، وهذا ما يحدث مع بعض العقول الأخرى الفنية الموسيقية، التشكيلية، العلمية، الرياضية، المكتشفة، والمخترعة.
والسؤال الملغز الذي طرح مراراً: هل شكسبير وغيره من “الشخصيات – العلامات” هو الذي كتب أعماله، أم أن هناك شخصيات نسائية مقربة كانت تساعده في الكتابة؟ وهل الإجابة مدفونة معه وهو الذي كتب “ملعون من يفتح قبري”؟ ومضمون السؤال بحيرته ذاتها ينطبق على آخرين في المسرح والفن التشكيلي، مثلاً: ما مدى تأثير التشكيلية الجزائرية بايه محيي الدين في أعمال بيكاسو، وهل رسمت له بعض أعماله؟ ومن الذي ساعد أينشتاين في نظريته النسبية؟ هل زوجته الأولى الصربية ميلفا ماريك؟ ومن الذي كتب مع هوميروس الإلياذة والأوديسا؟ من هي عقول الظل التي ساهمت في العديد من المجالات المميزة وماتت، ثم ماتت معها أسرارها؟!.
وبالمقابل، قد تصبح هذه التساؤلات أقل ضرراً أمام السؤال الأعظم المحيّر: كيف يبيع المرء عقله وضميره ودماغه وحياته ومماته من أجل تدمير ذاته ووطنه والعالم والماضي والحاضر والمستقبل؟.