دراساتصحيفة البعث

“America is back at the table”.. تحليلٌ للصراعات الدولية الراهنة من منظور الرؤية الأميركية (أميركا عادت إلى الطاولة)

شكّل “الشرق الأوسط” لعقودٍ مركز الثقل في الاستراتيجية الأميركية، والتي أعقبت ربط الدولار بالبترول، لينشأ نظام البترودولار الذي ضمن هيمنةً عالميةً للدولار على التجارة الدولية بعد صدمة نيكسون 1971، وما زال حاكماً لاستمرار الأحادية القطبية الأميركية، ومن أفغانستان إلى العراق وليبيا واليمن كانت مجالاً للحروب الأميركية.. لاحقاً، مع تولي باراك أوباما إدارة البيت الأبيض، بدأت تتغير أولويات الاستراتيجية الأميركية الدولية باتجاه الشرق الأقصى مدفوعةً بعدّة أمور: أولاً، تنامي القوة الصينية في شرق أسيا وتبنيها لمبادرة “حزام وطريق”، ثانياً، تنامي القوة الاقتصادية والتجارية الصينية وهجرة المصانع ورؤوس الأموال من أميركا إلى الصين، ثالثاً تراجع الطلب الأميركيّ على النفط من “الشرق الأوسط” بفعل الإنتاج الأميركيّ من النفط الصخري، والذي حول الولايات المتحدة، في العام 2018، من دولةٍ مستوردةٍ إلى مصدرةٍ، وهو ما أعلنه (لاحقاً) الرئيس دونالد ترامب (بصراحةٍ) بقوله “البترول يفقد أهميته شيئاً فشيئاً كسبب لبقائنا في المنطقة، قد نصل فجأةً إلى نقطةٍ لا نحتاج فيها إلى البقاء في هذه المنطقة”، لذلك أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية الإقليمية، والمعروفة بـ “محور شرق آسيا” في العام 2012، من قبل إدارة باراك أوباما، والتي تتمثل مجالات عملها الرئيسية في “تعزيز التحالفات الأمنية الثنائية؛ وتأسيس وجودٍ عسكريٍّ واسعٍ وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. لاحقاً تم إعادة تسمية الاستراتيجية بـ “إعادة التوازن”، وتهدف إلى إضعاف القدرات الدفاعية للصين، وتقويض اقتصادها، وإجبارها على الخضوع لهيمنة واشنطن، وتُعدّ اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي (TPP . 2015) تطبيقاً فعلياً لاستراتيجية محور أسيا، لاحقاً تبنت إدارة الرئيس دونالد ترامب، مصطلح “الهنديّ – الباسيفيك” (Indo-Pacific) لوصف المنطقة الاستراتيجية الأكبر بالنسبة للمصالح بآسيا، وتجسّد ذلك في وثيقة الأمن القومي الأميركيّ (2017)، ووثيقة الدفاع الوطنيّ (2018)، لتأتي إدارة الرئيس جو بايدن، ومن هذه المنطقة الجيو استراتيجية بالتحديد لتنتفض على استراتيجية “أميركا أولاً”، طارحة شعار “أميركا عادت” في محاولة استعادة مركز السيطرة الأحادية على النظام الدوليّ وذلك عقب قمة مجموعة السبع التي انعقدت في بريطانيا، حزيران 2021؛ وعليه، ما بعد العام 2018، وتحديداً بدءاً من 2021، فإنّ تركيز الولايات المتحدة الأميركية كأولوية قصوى في استراتيجيتها أصبح متمركزاً حول منطقة (الباسفيك والهندي) ضمن منطقة عمليات القيادة الأميركية (اندباكوم)، واتخذ منحىً أكثر هجومية ضمن استراتيجية (تصحيح المسار) لإعادة التوازن لمنطقة اندوباكوم، وتضمنت تلك الاستراتيجية سلسلةً متصلةً من الخطط والبرامج والسياسات في مواجهة الصين منها ما هو سياسيّ واقتصاديّ وعسكريّ وتقنيّ.. والعنوان العريض لتصحيح المسار يأتي تحت خطة (اقطع الحزام واخنق الطريق)، ومنعاً من وقوع تضامنٍ دوليٍّ مع الصين – الدول المستفيدة من المشروع الصينيّ – وتطبيقاً لاستراتيجية تصحيح المسار طرحت الولايات المتحدة (مبادرةً بديلةً لمبادرة حزام وطريق الصين) تحت مسمى (B3W أو إعادة بناء عالم أفضل) تم إطلاق المبادرة في حزيران 2021 في اجتماع مجموعة السبع الكبار في كورونال، وتحديداً خليج كاربيس في إنكلترا (12/ 6/ 2021)، وهيّ مصممةٌ لمواجهة النفوذ الاستراتيجيّ للصين من خلال توفير بديلٍ لمبادرة الحزام والطريق لتطوير البنية التحتية للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بقيادة الولايات المتحدة، حيث ستعمل دول مجموعة السبع على دعم البنية التحتية (للعالم النامّي) بتكلفةٍ إجماليةٍ تبلغ قيمتها 40 تريليون دولار بحلول عام 2035، وهدف هذه الاستراتيجية هيّ توفير بدائل للدول النامية عن الخيار الصينيّ، وبالعودة إلى استراتيجية (اقطع الحزام واخنق الطريق) فالأول (قطع الحزام) سيتم من خلال سلسلة من الأزمات الجيوسياسية في أسيا الوسطى ستؤدي إلى قطع الحزام على خلفية الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وما الأزمة الكازاخستانية (2022) في أحد جوانبها إلّا من مخرجات هذه الاستراتيجية، أمّا خنق الطريق البحري فستتم من خلال سلسلةٍ من التحالفات الأمنية والعسكرية البحرية في مقدمها تحالفيّ (اوكوس وغواد)، الأول (أوكوس) هو اتفاقيةٌ أمنيةٌ ثلاثيةٌ بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ستساعد فيها الولايات المتحدة وبريطانيا الجانب الأسترالي في تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافةً إلى تعزيز الوجود العسكري الغربيّ في منطقة المحيط الهادئ، و(غواد) هيّ صيغةٌ دبلوماسيةٌ استراتيجيةٌ تضم أستراليا واليابان والهند مع الولايات المتحدة تهدف لجعل منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرةً ومفتوحةً، وتشكيل جبهةٍ موحدةٍ أمام تنامي النفوذ الصينيّ. إضافةً إلى هذين التحالفين، تسعى أيضاً واشنطن لضم مجموعة (6+) والتي تضم كل من الفيتنام وسنغفاورة وفرنسا وبريطانيا لسلسلة التحالفات الأميركية في منطقة الهندي – الهادئ، ولم تكتف الولايات المتحدة بالجانبين الاستراتيجيّ والاقتصاديّ فقد أطلقت سلسلة من المبادرات السياسية الرامية إلى تقويض القوة المتنامية للصين وإرباكها سياسياً في إقليمها، ضمن استراتيجية ما بات يُعرف بـ (الأحزمة الليبرالية) لدعم حقوق الإنسان والديموقراطية في الدول المحيطة بالصين التي من شأنها تعميق الصدع بين الصين وجيرانها، وفعّلت أيضاً “دبلوماسية الانتشار المتقدم” لتعميق العلاقات مع أسيان، وركّزت على صيغة (2+2) مع الهند التي أدت في جولتها الثالثة 2020 إلى تفعيل اتفاقٍ لتبادل الخدمات اللوجستية العسكرية، كذلك الأمر اتفاقية التبادل والتعاون الأساسية (BECA)، التي ستتيح للهند الوصول إلى المعلومات المهمة لدى الجيش الأمريكيّ في أيّ صراعٍ عسكريٍّ محتملٍ، وتتيح لأميركا نشر وحداتٍ مقاتلةٍ شمال غرب الهند، وأولى الأهداف الأميركية من هذه المبادرات خلق صدعٍ بين الصين وجيرانها على خلفية أزمة تايوان الأخيرة ( محاولة الولايات المتحدة إيجاد جهودٍ إقليميةٍ في شرق وجنوب شرق أسيا لضمّ تايوان إلى الأمم المتحدة) وهو ما حصل في قمة الأسيان الافتراضية في هانوي 2021، وفي المحصلة بات الوضع الجيواستراتيجي في محيط الصين عامل عدم استقرار لمستقبل الاستراتيجية الصينية لعالمٍ متعدد الأقطاب، وهو ما يستدعي سلسلةً من المبادرات الصينية لتفويت الفرصة على مخططات واشنطن، كتحسين علاقتها مع جيرانها في جنوب أسيا على خلفية الخلافات في بحر الصين الجنوبي، وكذلك الأمر الاستقطابات الحاصلة في موضوع المياه (نهر ميكونج)، وتفعيل قاطرتها الاقتصادية في أسيا الوسطى.. وحلّ مشكلة الحدود مع الهند تحديداً خط (LAC).

وفي المقابل، وبعد أن أنجزت واشنطن بناء استراتيجياتها ضدّ الصين، أتت المرحلة الثانية وربما الأخطر من رؤية واشنطن العالمية (أميركا عادت)، وهيّ مواجهة روسيا في شرق أوروبا وآسيا الوسطى، تحت عنوان (الوجود الأماميّ المعزز) فمحاولات ضمّ كلٍّ من أوكرانيا وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، والتدخلات الغربية في بيلاروسيا (2020)، والأزمة البيبلاروسية البولندية (2021)، ونشر قوات تدخل سريع في البلطيق، تصب في خانة إطباق الخناق الاستراتيجيّ على روسيا وإنشاء قوس أزمات ممتدٍ من فلندا إلى أسيا الوسطى (الأزمة الكازخستانية)، مع تعميق الشرخ والخلاف في العلاقة الروسية التركية في شرق أوروبا ووسط أسيا، ودعم الأخيرة في سلسلة خطوات تقوّض مصالح روسيا الاستراتيجية في أسيا الوسطى كإنشاء منظمة “الأمم التركية” كبديل عن “المنظمة التوركوسية”، وتفعيل اتفاقٍ عسكريٍّ تقنيٍّ مع الباكستان وأذربيجان لخلق نظامٍ إقليميٍّ منافسٍ للشراكة بين (إيران الهند روسيا) وخلق تحدياتٍ أمام روسيا في القوقاز ولاحقاً أسيا الوسطى سيما أن طابع المشروع التركيّ (إسلاميّ) قد يجد بيئةً مؤيدةً له في أسيا الوسطى، ورغم أهمية المسودة التي سلّمتها وزارة الخارجية الروسية إلى الجانب الأميركي في 15 كانون الأول الفائت الخاصة بالضمانات الأمنية، والتي كانت محلّ تفاوضٍ أميركيّ – روسيّ، وروسيّ- ناتويّ في (10 – 11/ 1/ 2022) إلّا أنّها لم تفلح في تخفيض التصعيد لأنّ الولايات المتحدة تتعمد توتير الأجواء في أوروبا الشرقية لنسف فكرة “الاستقلال الاستراتيجي الأوربي عن الناتو” وهو ما يتوجب على موسكو تلقفه بعنايةٍ.. وبناءً على ما تقدم، (أميركا عادت) ليست مجرد شعارٍ سياسيّ أو حملةً دعائيةً لاستراتيجية الأمن القوميّ الأميركيّ الجديدة، بل هيّ مواجهةٌ استراتيجيةٌ متعددة الأطراف والجبهات في مواجهة روسيا والصين، تهدف إلى إضعافهما وخلق أقواس من الأزمات الجيوسياسية في محيط كليهما الإقليمي، وتقوض دعائم الاستقرار في مناطق الأهمية الاستراتيجية القصوى لكليهما في أسيا الوسطى وشرق أوروبا (لروسيا)، وهذا يتطلب نقاشاتٍ أعمق روسيةً صينيةً لإيجاد حلولٍ سريعةٍ لمشاكل دول أسيا الوسطى الخمس، الاقتصادية والسياسية، وتفادي تضارب المصالح بينهما لخلق بيئةٍ استراتيجيةٍ مضادةٍ للمشروع الأميركيّ.

الدكتور سومر منير صالح