“جنون” الأسعار يغيّر النمط الاستهلاكي للسوريين.. ضغط واضح بالنفقات بعيداً عن التبذير والإسراف
أمر طبيعي أن تؤثر الحرب على المجتمع، وأن يكون لها انعكاسات مختلفة على الحياة اليومية التي نعيشها حالياً، وخاصة الآثار الاقتصادية لجهة غلاء الأسعار. وتؤكد جميع تجارب الشعوب التي تعرّضت للحروب والأزمات المتعددة أنها تحوّلت من نمط تقليدي للحياة إلى نمط معيشي مختلف اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، بل لم تقف التغييرات فقط عند الحدّ الذي يتعلق بالحياة المعيشية، بل أثرت بشكل كبير في مفاهيم الأفراد في المجتمع وأخلاقياتهم وسلوكهم، وهذا التغيير والاختلاف ليس بالضرورة أن يكون سلبياً، فهناك جانب إيجابي تحمله بعض تلك التغيّرات والأمثلة العالمية كثيرة. وفي تجربتنا المحلية وبعد أكثر من عشر سنوات من الحرب بدأت تظهر ملامح جديدة لمعظم نواحي حياتنا، لكن يمكننا أن نقول إن مجتمعنا حافظ على مبادئه وأخلاقياته إلى حدّ جيد، لكن لا تبدو عاداته الاستهلاكية هي التي كانت سابقاً قياساً بالذي نشاهده اليوم، فقد تخلّت معظم فئات مجتمعنا عن العديد من العادات الشرائية، بدءاً من فنجان القهوة الصباحي مروراً بما يتبعها من عادات أخرى!.
للضرورة فقط!
في الحديث مع الكثير من الناس، سواء أكانوا من المستهلكين العاديين في بيوتهم أو ممن هم في مراكز العمل وفي كل المستويات، كان القاسم المشترك أن الآثار الاقتصادية للحرب التي تسبّبت بارتفاع الأسعار ونقص في المواد الغذائية فعلت فعلتها وجعلتهم يعدون للعشرة قبل أن يشتروا أية سلعة، بمعنى لا يمكن لأي مواطن حتى وإن كان من الفئات “المكتنزة” مادياً أن ينكر التغيّر الذي حصل في سلوكه الشرائي.
هنا بيّن الخبير الاقتصادي فادي عياش لـ”البعث” أن هذا السلوك التقشفي بدا واضحاً بدءاً من موسم المونة والتي هي من أهم العادات المتوارثة لدى مجتمعنا السوري، ولم يكن أي بيت يخلو منها كالبرغل والزيتون والزيت والكشك والمكدوس وغيرها من المواد التي تخزن على مدار العام، لكن بالمقارنة مع الظروف الحالية نجد أن معظم هذه المواد دخلت نظام الترشيد، أي الاستخدام الآني لها، وشرائها للضرورة فقط وضمن الحاجيات الأساسية، حيث لم يعد يملك المواطن القوة الشرائية للتخزين نظراً لضعف قدرته الشرائية بالدرجة الأولى، ولعدم توفر الكهرباء لضمان حفظ المونة كورق العنب والفول والبازلاء وغيرها، وهذا برأيه دفع الكثيرين للتخلي عن فكرة المونة واللجوء للترشيد بها، بل حتى عملية الشراء لم تعد تعتمد على الكميات التي تبقى لأسبوع أو أكثر، فبدلاً من شراء /3/ كيلو بندورة أو باذنجان أو غيرها من الخضراوات أصبح المواطن يشتري حاجته فقط ولمدة يوم واحد ليستطيع أن يؤمن حاجياته الباقية، وهذا أيضاً يدخل في النظام الترشيدي للعائلة. ويضيف عياش: حتى “العزايم والسهرات العائلية” لم تنجُ من هذا الترشيد، والتي كانت سابقاً سائدة كثيراً في المناسبات وغير المناسبات لتقتصر اليوم على زيارات قصيرة يتخللها كأس زهورات بدلاً من القهوة التي باتت أسعارها عالية جداً.
وبرأي عياش أن هذا يعدّ تغييراً حقيقياً للعادات الاستهلاكية القديمة واعتماد عادة الترشيد والتقنين، وليس من الضروري أن يكون هذا التغيير سلبياً، فهو في كل الأحوال وحتى أيام الرخاء والبحبوحة إيجابي وسلوك صحيح ومنطقي لكنه جاء نتيجة لظروف الحرب الاقتصادية وليس نتيجة وعي وإدراك أهمية الترشيد وضبط النفقات العائلية، أي أن السلوك السابق هو الخاطئ وليس ما نفعله الآن، لذا يجب المحافظة على سلوك الشراء الواعي وعدم الهدر بشراء كميات كبيرة للسلع الغذائية، بالإضافة إلى أنه السلوك المتبع حتى في الدول الكبرى التي لا يوجد فيها أزمة اقتصادية، ناهيك عن عودة استخدام القديم من السلع والمنتجات والتي تلاحظ بقوة، لأن الفرد لم يعد قادراً على اقتناء الجديد المرتفع السعر، وإنما يلجأ للتصليح كالأدوات الكهربائية والثياب والأحذية المستعملة وغيرها، وهي أشياء يتمّ الاعتماد عليها بشكل كبير للتخفيف من النفقات.
عودة للتقاليد
في السياق نفسه، ثمّة من يرى أن هناك عودة للتقاليد القديمة كتلك التي تتعلق بعملية حفظ بعض الأطعمة أو الأغذية خلال العام، حيث يرى الخبير الاجتماعي محمد سعيد الحلبي أن المواد الغذائية لم تعد تعتمد على الفريزر وإنما على عادة “التيبيس” القديمة، حتى اللحمة عادت لتُصنع بشكل “قاورمة” كما كان سابقاً، وهناك فئة الجيل الجديد الذي أصبح معتاداً على الوجبات السريعة وليس على الطبخ في المنزل لأنه أسرع وأوفر بالنسبة له، ولا نستطيع الحكم بإيجابية أو سلبية تلك العادات لأنها فرضت على المجتمع وليست نابعة من قرار خاص به، أي أن المجتمع لم يألفها بعد وإنما يحاول الاعتياد عليها بحكم الظروف الراهنة وضرورة التأقلم.
نمط حياة جديد
ورغم اختلاف الآراء حول نوع التغيير الحاصل في سلوكياتنا الاستهلاكية بسبب الأزمة الاقتصادية التي نعيشها، إلا أن الجميع اعترف أن هناك تغيراً واضحاً نتلمسه بشكل يومي، وإن لم يكن إيجابياً فهو بالتأكيد ليس سلبياً، بل يمكن أن نسميه ببساطة “نمط حياة جديد”. هذا ما يفسّره أستاذ علم الاجتماع الدكتور أحمد الأصفر بقوله: العادات جميعها موجودة وبأشكال مختلفة، لكن مع التغيّرات الجديدة والتحديات فرضت أنماط الاستهلاك اليومي وعدم التخزين والمونة السنوية، وهنا يجب أن نلفت الانتباه إلى أن فكرة التموين وتكديس المؤن كان يترافق مع توفرها بشكل كبير في الأسواق ولم ترتبط بفقدان السلعة، بمعنى آخر أن فقدان السلعة لا يؤدي إلى تلك الظاهرة وإنما العكس تماماً، لذلك يكون واقع الاسترشاد الحالي ليس نتيجة لوعي وقناعة لدى الفرد وإنما ناتج عن تراجع المستوى المعيشي للفرد ومحاولته التكيّف مع الواقع الجديد. ويضيف الأصفر: لم يقتصر التغيير في السلوك الاستهلاكي فقط وإنما في نوع المادة المستهلكة، فنحن لم نعرف مسبقاً ماهي “الانفرتر والليدات” وغيرها من المواد الاستهلاكية الجديدة، حتى مادة الفروج لم تعد تباع إلا قطعاً بطريقة تأخذ منه الجانب الذي تحتاجه لغدائك فقط وليوم واحد، وفي النهاية مهما كان نوع التغيير الحاصل هو بالتأكيد ليس سلبياً، لكنه مرهون بوعي المجتمع واحترامه كضرورة وحالة طبيعية لنظام استرشادي يضمن عدم الهدر والتبذير إذا صح القول، فنحن لم نعد نرى من يرمي الخبز في القمامة أو حتى استعماله كعلف للحيوان وحتى رمي الأطعمة الفائضة من مائدة اليوم السابق ويجب ألا ننكر أن هذا كان موجوداً سابقاً بكثرة، ولعلها فرصة أمامنا لاستبدال تلك العادات بعادات تتناسب مع العصر الذي يشير دائماً لأزمة غذائية عالمية قادمة.
ميادة حسن