“الشراع والعاصفة”.. الصراع مع الحياة في الحرب
“البحر يعلم كل شيء”، الجملة التي تردّدت في فيلم “الشراع والعاصفة” بتوقيع المخرج غسان شميط المأخوذ عن رواية حنا مينه الشهيرة بالاسم ذاته “الشراع والعاصفة”، والذي عُرض في النادي السينمائي بالتعاون بين المؤسّسة العامة للسينما ومؤسسة أحفاد عشتار في المركز الثقافي العربي (أبو رمانة) واقتصرت الجلسة على عرض الفيلم فقط دون مناقشته.
لم يكن البحر الفضاء المكاني والمعلّم فقط، وإنما كان رمزاً للوطن في هذا الفيلم الرائع، الذي لم يأخذ حقه بالعرض والتسويق بسبب تتالي سنوات الحرب، إذ أنتج في 2011 بالتعاون بين المؤسّسة العامة للسينما وشركة كان للإنتاج السينمائي والتلفزيوني. والملفت أن الفيلم حظي بكل مقومات النجاح كونه اتكأ على المتن السردي لأحداث رواية الكاتب الكبير حنا مينه، والحوارات المبنية على أيديولوجيات الخطاب السياسي إضافة إلى البعد العاطفي، فكتب السيناريو الكاتب وفيق يوسف والمخرج غسان شميط، الذي اشتغل كل مشهد بحرفية عالية.
الطروسي والإبحار
وتألق الفيلم بالأداء الرائع للبطل جهاد سعد الذي جسّد شخصية الطروسي، الشخصية المحورية التي حملت الكثير من صفات النبل والشهامة والوطنية فكان الملجأ للصيادين، وأظهرت الأحداث أيضاً دوره السياسي في مناصرة أحد الرجال الملاحقين. وقد عمل شميط على إظهار جوانب مختلفة من الشخصية، فبيّن من خلال الأحداث الشرخ الداخلي الذي يعيشه الطروسي بصراعه مع الواقع والحلم بالعودة إلى الإبحار والتنقل بين الموانئ، إلا أن المنعطف في حياته كان عشقه لنجوى بائعة الهوى التي جسّدت دورها الراحلة الجميلة رندة مرعشلي بإحساس أنثوي رقيق، فكانت قصة الحب بينهما الخط المرافق لأحداث الفيلم ولشخصية الطروسي خاصة، ونمت الحوارات العاطفية بينهما عن رومانسية حالمة تمازجت مع أمواج البحر والمطر وضوء المصباح.
صراع القوى
الفيلم مثل الرواية محمّل بالرسائل، وتدور أحداثه في ساحل اللاذقية خلال فترة نهاية الحرب العالمية الثانية وصراع القوى العظمى، والانتداب الفرنسي على سورية وظهور تيارات سياسية، وتشكُل البورجوازية المسيطرة مثل (أبو رشدي) –حسام عيد- المتحكم بالميناء وبقوت الصيادين والعنيف بتعامله معهم كما في مشهد ضرب الصياد وكسره قصبة صنارة الصيد. وكذلك شخصية برو -وضاح حلوم- المشاكس الذي تعدى على الريس الطروسي فسجن، لكن الطروسي الذي يتحلّى بكرم النفس يسقط حقه عنه “أنا لا أعتدي على أحد، لكن أقف في وجه من يعتدي عليّ”. كما كان لشخصية القبطان –الراحل زهير رمضان بأدائه البارع لجوانب الشخصية- دور في الميناء وبالأحداث.
اعتمد الفيلم على إظهار المشاهد التي تعجّ بالشخوص الجماعية لحياة الصيادين والبحارة، الذين يمضون على المراكب ولا يعرفون ماذا يخبئ لهم القدر، فصوّر سهراتهم في المقهى الذي بناه الطروسي بمساعدة صديقه (أبو محمد) –جرجس جبارة- بعد أن غرق مركبه في عاصفة شديدة وخسر كل شيء ورفض الإبحار على مركب أحد، وبقي يعيش حلم الإبحار بشراء مركب خاص به.
حوارات سياسية
وفي المقهى أيضاً وعلى صخور الشط بالعتمة كان يتجمّع البعض برفقة الطروسي للإصغاء إلى المذياع والتحليل السياسي المتضمن الحثّ على خروج الفرنسيين من سورية، وهذا ما يسوّغ كثرة المشاهد الليلية بالإضاءة المعتمة لسرية الحوارات حول الحرب ودور روسيا ومتابعة هتلر، وبدا دور –زهير عبد الكريم- بمساعدة مشهور خيزران بالنضال السياسي. كما انتقلت الكاميرا إلى المشاحنات بين الصيادين التي تنتهي مباشرة “انتهت بأرضها” وبحديث حكواتي الشاطئ عن حورية البحر، فهيمنت اللهجة الساحلية باستثناء نجوى التي تحدثت باللهجة الشامية المحكية.
أم حسن والبحر
تتصاعد الأحداث حينما يقرّر الطروسي بيع القهوة وشراء مركب، فيغضب (أبو محمد) بقوله “هذه القهوة دينتي فكيف تحرمني منها” كما تعترض نجوى الذي أطلق عليها الطروسي أم حسن بعد ارتباطه بها واصطحابها معه لتعيش في منزله، فيتزوجها رسمياً ويعدها بأنه سيعود من البحر. ومع تشابك الأحداث السياسية والصراعات الداخلية تظهر شخصية سليم الذي اشترى مركباً جديداً –الرحموني- بمباركة الريس الطروسي، وتمهيداً لمشهد العاصفة تتابع الكاميرا حركة الأمواج فينبّه الطروسي الصيادين بالعودة سريعاً خوفاً من النو.
العاصفة وحدتهم
تشتدّ الأمواج وتتصارع مع انهمار المطر الغزير وتأخر مركب الرحموني ومواجهة الصيادين العاصفة في متن البحر، فيهرع الطروسي إلى الميناء طلباً للنجدة لكن القبطان يرفض تحمّل المسؤولية لأن العاصفة هوجاء وستقتل البحارة، لكن إزاء إصرار الطروسي “لو كنت وجدت من ساعدني ما غرق مركبي” يتشجع بعض البحارة للمضي معه، ويعرض برو مساعدته فيوافق الطروسي برمزية دالة على توحد الأشخاص بالمأساة ونسيان الخلافات، يمضي زورق النجاة ويوزع الطروسي المهام على البحارة، لكن الرياح تعاكس الزورق وتشتد العاصفة ويقترب الوقود من النفاد، فيواجه الطروسي العاصفة ويلمح من بعيد مركب الرحموني، فيطلب من البحارة العودة إلى الشط قبل أن ينفد الوقود، ويلقي بنفسه بعرض البحر لإنقاذ المركب بعد فقد بحارتها باستثناء سليم الذي كان يصارع الموت.
الصراع مع الحياة
مشهد العاصفة كان الحامل الأساسي للفيلم، وقد صوّر في أوكرانيا بتقنيات الخبراء الأوكرانيين ومهارتهم بالغرافيك، فاختزل مقولة الرواية والفيلم بصراع الطروسي مع العاصفة التي ترمز إلى الصراع مع الحرب والفرنسيين والحياة للوصول إلى برّ الأمان فينجح ويعود على متن المركب إلى الشاطئ، في لحظة تجمع النسوة زوجات الصيادين والبحارة وسيارة الإسعاف والقبطان والطرف الآخر من النزاع (أبو رشدي) الذي يعترف بقوة الطروسي بقوله “صحيح إنك الريس” وينتهي الفيلم بعناق الطروسي زوجته أم حسن بإحساس يضيف بريقاً لشخصية الطروسي التي توحدت مع جهاد سعد.
ملده شويكاني