“فيلم أمريكي طويل” ..وإجرامي أيضاً
أحمد حسن
كل التفاصيل والكواليس المحيطة بأحداث “سجن غويران” تجعلها تبدو كـ “فيلم أمريكي طويل” مستنسخ بصورة شبه حرفية عن فيلم السجن العراقي السابق الذي “هرب” منه قادة “داعش” الأوائل، فالقصة هي ذاتها، والمخرج هو ذاته أيضاً، فيما التغيير الوحيد يتمثل في المكان وفي أسماء بعض الممثلين فقط.
في المرة الأولى في العراق، كان الهدف استعادة قصة “القاعدة” في الدرس الأفغاني لاستثمار الجماعات المتطرفة التي تم رعايتها أمريكياً في السجن تنفيذاً لخطة إرباك العراق وقواه الوطنية، وبالتالي تحقيق أهداف عدة على رأسها تمديد الاحتلال الأمريكي لبلاد الرافدين، بل وإكسابه صفة “المشروع”، و”الضروري الملّح”، عبر المطالبة الشعبية والرسمية به كمنقذ من الوحش الداعشي، وبالتالي الاستمرار في الإمساك بقرار المنطقة بأسرها، وبالتحديد قطع عرى التواصل بين قوى الممانعة والمقاومة بحجة ملاحقة ومحاربة الإرهاب.
في المرة الثانية، أي حالة سجن الحسكة، المطلوب إعادة بعث داعش، واستعادته وظيفياً للمهمة ذاتها، وإن كان المسرح هذه المرة الأراضي السورية.
وبالطبع، هذا لا ينفي وجود أهداف أخرى ومتعارضة بين المخرج والممثلين، فبعضهم، أي ميليشيا قسد، يأمل أن يسدل ستار هذه المسرحية وقد تحقق له، من جهة أولى، المزيد من الدعم المالي و”الاعتراف” السياسي الدوليين بدعوى محاربة الإرهاب “نيابة عن العالم الحرّ”، ومن جهة ثانية إطالة أمد وجود القوات الأمريكية هناك كغطاء دولي حام لمشروعها الانفصالي الواضح.
بعضهم الآخر، كعناصر “داعش” – لا قادته الذين يعرفون دورهم تماماً – لا زال يحلم بأرض الخلافة، فيما الكاتب والمخرج الرئيسي، أي المحتل الأمريكي، لديه أهداف أبعد مما يريده الطرفان معاً.
والحال، فإن الأمريكي الذي ربط وجود قواته وحاول شرعنتها بمواجهة “داعش” وخطره الداهم على العالم كله، وبعد مسرحية الاحتفال السابقة بالقضاء عليه، وفي ظل تغير الظروف السياسية الدولية، يريد القول أن التنظيم ما زال قوياً، وبالتالي فإن وجوده العسكري الاحتلالي، في الأرض السورية، ما زال ضرورياً لمواجهته، خاصة وأنه ليس لأحد من أتباعه – قسد تحديداً – القدرة على مواجهة الإرهاب وحيداً، كما يثبت فيلم الهروب الكبير لعناصر التنظيم من سجنها، ومن هذا الهدف ينبثق هدف آخر لا يقل عنه أهمية، وهو إجبار هؤلاء الأتباع على الانسياق وراء مشروعه الأكبر والأوسع المتمثل بتوسيع قائمة حلفائه في المنطقة – تحديداً المنضوين حالياً تحت المظلة التركية – وإشراكهم في إدارة وقرار، وثروات، ما تسيطر عليه “قسد” التي ما زالت ترفض هذه الشراكة حتى الآن، وبالطبع ليس نتيجة دواع وطنية واستقلالية صافية، بل لمصالح فردية وفئوية وحزبية ضيقة تتمثل بهدفها الأوحد وهو السيطرة المنفردة على مقدرات المنطقة وقرارها – آخر “مآثرها” في ذلك مصادرة هويّات من أسمتهم بـ”الغرباء” عن المنطقة (أي بقية السوريين ممن لا يشبهونها)، وهذا تطهير عرقي كامل المواصفات – فالمشروعان، الأمريكي الواسع والـ “قسدي” الضيق، مشروعان انفصاليان في جوهرهما، وبالتالي ورغم اختلافهما الشكلي إلا أنه ليس لأحدهما “شرف” التفاضل مع الآخر.
بهذا المعنى، لا يعود هناك مجال لأسئلة مثل “كيفية تمكّن عناصر داعش من الوصول بمفخّخاتهم إلى منطقة تضرب فيها “قسد” طوقاً أمنياً مشدّداً؟!، أو “تمكّن الفارّين لتوّهم، من الحصول على أسلحة واستخدامها في الاشتباكات؟!”، فتلك، وسواها، أسئلة نافلة لأن المخرج الذي حدد لكل دوره هو من رسم الطريق وقدم الأدوات اللازمة لذلك، فـ”تنظيم داعش موجود ليبقى”، بحسب ما قاله مسؤول أوروبي كبير منذ سنوات عدة.
إذاً هذا “فيلم أمريكي طويل”، وما دفع الأمريكي لإعادة إنتاجه هو خشيته من المتغيرات المتلاحقة في المنطقة والعالم، وآخر مظاهرها تلك الصور الواردة و”المقلقة” للإقبال اللافت لأهل المنطقة الشرقية على مراكز التسويات التي فتحتها الدولة السورية هناك، الأمر الذي سيؤدي، وفق ما يعرفه المحتّل، والتابع أيضاً، إلى هزة كبرى لمشروعهما الاحتلالي، والانفصالي أيضاً، والذي يتعرض أصلاً لموجة اعتراض شعبية تتسع وتتجذر يوماً إثر آخر، وتلك هي القصة كلها.