ماذا لو فعلتها روسيا؟
طلال ياسر الزعبي
ماذا لو أعادت روسيا إنتاج سيناريو عام 1962 عندما نصبت صواريخها النووية في كوبا التي تعدّ الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية؟
كثيرون يطرحون هذا السؤال الآن على خلفية إصرار حلف شمال الأطلسي “ناتو” – بقيادة واشنطن طبعاً – على التمدّد شرقاً باتجاه الحدود الروسية الغربية في محاولة لإضعافها وخنقها، ولكنهم يعودون ليقولوا: إن حال روسيا اليوم مختلف عن الاتحاد السوفييتي السابق.
غير أن الأمر مختلف تماماً، وله الكثير من المسوّغات التي تدفع باتجاه تحقيقه، فهناك عمل غربي حثيث تقوده الولايات المتحدة لشيطنة روسيا تمهيداً لفرض عقوبات اقتصادية جديدة تكون مدخلاً لإضعافها، وهذا الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على قدرة الغرب على كسب الوقت لتمرير مخططاته في هذا الشأن، حيث تعمل واشنطن جاهدة على إشعال الأزمات في محيط روسيا الجغرافي، ونشر قوات قتالية تابعة لها أو لحلف “ناتو” مباشرة على تخوم روسيا، مستغلة قدرة عالية لديها على تصعيد الأزمات داخل هذه الدول وصولاً إلى إجبار سلطاتها على طلب الحماية الأمريكية، وما يحدث حالياً في أوكرانيا هو مثال صارخ على صناعة أزمة وتضخيمها من خلال الادّعاء أن موسكو تحشد مئة ألف مقاتل على حدود أوكرانيا استعداداً لغزوها عسكرياً، ورفع مستوى “روسوفوبيا” داخل الاتحاد الأوروبي بالكامل مستغلة عجز هذا الاتحاد فعلياً عن تحديد مصالحه الحقيقية والدفاع عنها، وذلك لمنع أيّ تقارب محتمل بين هذا الاتحاد وروسيا يؤدّي بالمحصلة إلى الاستغناء عن الحاجة إلى واشنطن في تنظيم الملفات الأوروبية، لذلك يصرّ الروسي دائماً على التفاوض مع واشنطن بوصفها ناطقاً رسمياً باسم هذا الاتحاد، للقول للدول الأوروبية: إنكم لا تملكون سياسة مستقلة وبالتالي لا جدوى من التفاوض معكم عملياً.
وإذا راقبنا طبيعة المفاوضات التي جرت مؤخراً بين روسيا والولايات المتحدة أولاً، وبينها وبين “ناتو” والاتحاد الأوروبي ثانياً، نجد أن هذه الطريقة في إجراء المحادثات بشكل منفصل دون حضور الأطراف جميعاً على طاولة واحدة، كانت خياراً أمريكياً بالدرجة الأولى، وذلك أن رفض تقديم ضمانات أمنية لروسيا لم يأتِ عبر واشنطن مباشرة، وإنما جاء على لسان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ناتو” ينس ستولتنبرغ الذي أعلن صراحة أن الحلف لا يستطيع تقديم ضمانات لروسيا بعدم ضمّ أوكرانيا إليه، وبالتالي لا يستطيع ضمان عدم تمدّده شرقاً، وهو الأمر الذي طلبت موسكو من الغرب ضمانات بشأنه، وبالتالي فإن أمريكا تركت الرفض يأتي على لسان الحلف مباشرة، لأنها لا تستطيع تحمّل تبعات رفضها تقديم هذه الضمانات مباشرة، بعد أن أكدت روسيا غير مرة وعلى لسان كبار مسؤوليها أن إصرار واشنطن وحلفائها في “ناتو” على نقل بنية عسكرية تحتية إلى دول الاتحاد السوفييتي السابق وحتى إلى دول البلطيق التي كانت إلى وقت قريب محايدة في التعاطي مع حلف شمال الأطلسي وروسيا، يمكن أن ينتج عنه بالمحصلة إعادة أزمة صواريخ الكاريبي عام 1962.
فما مصلحة واشنطن في تسعير الصراع بين روسيا وجيرانها في أوروبا عبر أوكرانيا، وهل تستطيع بالفعل صناعة كل هذه الأزمات على حدود روسيا ثم تقف متفرّجة دون أن تتأثر بارتدادات هذه الأزمات؟.
في الحقيقة، يعتقد السياسيون الأمريكيون، وهم مخطئون، أنهم يستطيعون إرباك كل من روسيا والصين، وحديثنا هنا عن روسيا، في أزمات على حدودهما تؤدّي في المحصلة إلى إرهاق الخصمين اللدودين على الساحة الدولية، وفي الوقت ذاته يوهمون أنفسهم بأنهم قادرون على فعل ذلك دون إثارة أيّ ردّ فعل مباشر من الخصم على استفزازاتهم، وهذه اللعبة بالضبط هي التي يحاول الساسة الأمريكيون القيام بها مع روسيا الآن، ولكن هل ستتفق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، وهل سيمتنع الروسي بالفعل عن القيام باستفزاز مباشر للولايات المتحدة يخل بالتوازن الاستراتيجي المزعوم بين القوّتين النوويتين؟.
يبدو أن الأصوات في الولايات المتحدة ذاتها بدأت تتعالى بضرورة فرملة الاتجاه الداعي إلى التصعيد مع روسيا، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يقول: إن إدارة بلاده الحالية لا تسيطر على الموقف، ودفعت الوضع إلى ظهور تعليقات روسية حول احتمال ظهور وجود عسكري روسي في أمريكا اللاتينية.
وهذا يشير إلى حقيقة واضحة: أنه لابدّ من مكان يجب التوقف عنده في استفزاز الخصم الروسي، لأن حالة الاتحاد التي يتحدّث عنها الرؤساء الأمريكيون دائماً يمكن أن تتعرّض لتهديد كبير إذا ما نفّذ المسؤولون الروس تهديداتهم بشأن إقامة قواعد عسكرية روسية في كل من كوبا وفنزويلا، أو نشروا جزءاً من غواصاتهم الاستراتيجية في الأطلسي، وعندها سيتأكد لدى الجميع أن سحر واشنطن على حدود روسيا الغربية يمكن أن ينقلب عليها، وعندها تكون براقش قد جنت على أهلها بالفعل.