مصطلح آخر يغزو لغتنا وثقافتنا قولاً وفعلاً!!
تلاميذ يأخذون مقاعدهم في الصّف، ومعلمةٌ تعرّفهم على زميل جديد لهم قادم من مدرسة أخرى أو بلدة أخرى.. تلميذ خجول ولطيف أكثر من اللزوم، ما يجعله عرضةً لسخرية مجموعة من زملائه.. سخرية تتطوّر لدرجة العدائية والأذى والاتّهامات من دون أن يحرّك باقي الزّملاء ساكناً أو حتّى تعرف مديرة المدرسة أو مشرفة الصّف أو حتّى أهله، لأنّه غالباً ما يخفى عليهم ما يعانيه في المدرسة.. لكنّه في منتصف الفيلم يقرّر أن يبوح لزميل أو زميلة ما يعانيه.. هذا ما يُسمّى في الأفلام الأمريكية بـ “التّنمر”، ويتمّ تناوله بأشكالٍ مختلفة، كأن يكون ضدّ فتاة شقراء أو سمراء أو فتاةٍ تعاني متلازمةً ما أو شاب يغطّي جزءاً من جسده وشم ظاهر وبشكل لافت أو تشوّه خلقي أو تشوّه سبّبه حادث ما، وهنا أي في حال كان التّنمر بين المراهقين أو الكبار يترافق بالتّهديد والوعيد وبألفاظ جنسية وشتائم بذيئة تخدش الحياء.
بالبحث عن هذا المصطلح في قاموس اللغة نقرأ “تَنَمَّرَ” هو الفعل، وتنمّر الشّخص أي غضب وساء خلقه وصار كالنّمر الغاضب أو تشبّه بالنّمر في لونه وطبعه أو مدد في صوته عند الوعيد، أمّا “التّنمر” الاسم فهو سلوك عدواني متكرّر يهدف إلى الإضرار بشخص ما جسديّاً أو نفسيّاً، وهو غالباً سلوك فردي وإن كانت تمارسه مجموعة في بعض الأحيان، ومن أشكال التّنمّر – إضافةً إلى ما ذكرنا سابقاً – التّنابز بالألقاب والاستبعاد من النّشاطات والمناسبات الاجتماعية وإطلاق الشّائعات واختلاق الأكاذيب.
أمّا بالبحث عن تاريخ “التّنمر” فنجد أنّه ليس بالقديم وإن كان قد نوّه به أو بشيء يقاربه في “تقويم نيوجيت” البريطاني الذي بدأت طبعاته بالظّهور في منتصف القرن الثّامن عشر وهو عبارة عن قصص تتحدث أو توثّق لجرائم حصلت آنذاك، بل هو مصطلح جديد في العالم كما هو جديد ودخيل على ثقافتنا، وغزا حياتنا وقنواتنا التّلفزيونية والإذاعية وحساباتنا الشّخصية على شبكات التّواصل الاجتماعي ليس بالقول فقط إنّما بالفعل أيضاً، وللأسف غالباً ما يكون هذا الفعل صادراً عن مثقفين أو محسوبين على الوسط الثّقافي أو عاملين فيه، وعلى ما يبدو فإنّ الإناث في الوسط الثّقافي هنّ الأكثر عرضةً لذلك من الذّكور، مع العلم أنّ بعضهن يشارك في السّخرية والاستهزاء من أخريات وفي نصب الشّراك لهنّ واستبعادهنّ من نشاط ما أو إبداء آراء بعملهنّ بعيداً عن الموضوعية والمصداقية ولاسيّما إن كنّ في المجال ذاته.. أمّا إن تحدّثنا عن هذا السّلوك العدواني الصّادر عن الذّكور فالحديث يطول كثيراً، ولا يبدأ من شكل أنف وقوام وشعر أو صوت ولا ينتهي عند الاستهزاء والسّخرية من وضعٍ اجتماعي أو مهنيّ والتّقليل من شأن منتوجها الأدبي والثّقافي بل في أحيان كثيرة إنكار هذا الوجود.
أمّا إن انتقلنا إلى الجانب الفنّي، فنجد أنّ الفنانات والفنانين على حدّ سواء هم موضع استهزاء ونقد لاذع دائماً ويطول في كثير من الأحيان الشّرف والكرامة والموت والحياة والعائلة والأولاد ومقارنة أشكالهم بين الماضي والحاضر وصورهن على الشاّطئ وملابسهن، وكأنّ الإنسان ثابت لا يتغيّر مع الزّمن أو أنّ عملية تجميل لتحسين شكل أنف جريمة كبرى يعاقب عليها، طبعاً لا نتحدث هنا عن الهوس بهذه العمليات لدرجة ينقلب شكل الممثّل أو الممثّلة رأساً على عقب.
إن تصفّح الـ “فيسبوك” لساعات قليلة يعطي صورةً كاملةً عن ثقافة شريحةً لا بأس فيها من مجتمعنا ومن ضمنهم مثقفون، روائيون وقاصّون وشعراء وباحثون وصحفيون، جعلوا من هكذا أخبار مهمتهم الوحيدة، لدرجة أنّ عنواناً من نمرة (الفنانة فلانة تزعج الجمهور بقصّة شعرها أو بفستانها القصير) شعار أحد المواقع الإخبارية. والسّؤال الذي يفرض نفسه ها هنا: من قال لهذا الصّحفي أو المثقّف إنّ الجمهور منزعجٌ من هذه “الإطلالة”؟.. طبعاً ونقرأ من جانب آخر ردود فعلٍ تستهجن ما سبق من تهكّم وعدوانية وسلوك لا أخلاقي ولا إنساني ينمّ عن جهل كبير ونفاق ثقافي أكبر، بل إنّه، وحسب بحوث نفسيةٍ، يشير هكذا سلوك إلى شخصية استبدادية أو شخصية حسودة وتعاني نقصاً في تقدير ذاتها أو اكتئاباً واضطراباً في الشّخصية، وتلجأ إلى هذا السّلوك كأداةٍ لإخفاء عار أو قلق أو لتعزيز احترام الذّات، طبعاً وأمثلتنا هنا كثيرة لن نأتي على ذكرها، لأنّ من يعمل في الثّقافة يعرفها جيّداً ويدركها ويلاحظها في الأمسيات والنّدوات والملتقيات بل والمناصب – على قلّتها وقلة أهميتها – لكن سنضرب مثلاً واحداً ونترك لكم القياس عليه. منذ فترة قصيرة ذهبت صحفية والدّموع تسبقها إلى رئيسها في العمل تشكو زميلها بسبب سوء معاملته لها والتّقليل من عملها بل تهميشه مع العلم أنّ صداقةً تربطهما منذ أيام الدّراسة الجامعية، لكن – على ما يبدو – هذا هو الظّاهر فقط، وبعدها بأيام قليلة كتبت زميلة عن حالةٍ مماثلةٍ لكن هذه المرّة ضدّ شكلها.. أمام كلّ ما ورد وسيرد لاحقاً نتساءل: لماذا ننتظر دائماً أن تأتينا المصطلحات الغربية على طبق من قشّ ولدينا لغة فيها من المرادفات والألفاظ والمفردات ما يمكننا من استخدام لفظ جديد كلّ يوم؟ لماذا يقف المثقف صامتاً مكتوف اليدين أمام سلوك عدواني يمارس ضدّ مثقّف آخر وينأى بنفسه عن ظواهر يعدّها لا تخصّه لا من قريب ولا من بعيد؟ الجواب باختصار، وعلى ما أعتقد، أنّ بعض المثقفين نسوا دورهم المجتمعي وصاروا يلهثون وراء جائزةٍ من هنا وأخرى من هناك، فضلاً عن شهرة لن تزيدهم شيئاً إن كان منتوجهم الأدبي يختلف كلّياً عن طبائعهم!.
نجوى صليبه