عن سورية.. والأخوة القومية
بسام هاشم
على امتداد ألف عام تقريبا، شكلت الحواضر العربية الكبرى، بغداد ودمشق والقاهرة، منارة المدنية العالمية، وأظهرت الحضارة العربية ديناميكية هائلة مكنتها من بسط هيمنتها وتأثيرها من أقاصي آسيا وشمال أفريقيا إلى قلب أوروبا.. لقد قدمت “العروبة الحضارية” (بمفهومنا المعاصر) أروع وأجمل صفحات الإبداع الإنساني، ومنحت البشرية ثراثاً لا ينضب من الإبداع والخلق الثري والخصب، وأعطت نماذج لا تعد ولا تحصى من الاعتداد بالذات والدفاع عن الحرية والشرف والكرامة الفردية والقومية، وفي القتال حتى الموت في سبيل الاستقلالية، لكن العرب اليوم في حالة يرثى لها، باستثناء إضاءات تراجيددية قليلة تصارع في مقاومة الذوبان والتلاشي والعتمة، وتكافح في سبيل الإبقاء على شعلة الضوء متلألئة ملتهبة.. فلماذا لا يستطيع العرب الخروج من هذه الدوامة الرهيبة؟ ولماذا كل هذا الاقتتال والتناحر؟ ولم كل هذا الشعور بشبه الاندحار التاريخي في عصر يتحدث فيه الجميع عن “الفرص للجميع”، و”تقاسم مكاسب العولمة وما بعد العولمة؟
تلك أسئلة ممضة وقاسية جلدت أرواح أجيال متعاقبة، واكتوى بها – ولا يزال- وعينا لذاتنا كأمة لا ينقصها الطموح، ولا يعوزها الذكاء، ولا تفتقد للموهبة، ولكنها نسيج متهتك يعج بالمزيد من الخونة والمتآمرين والغزاة والمحتلين، ويفتقد لأدنى الشعور بالتضامن ووعي الحياة والمصير المشترك.
فماذا يعني أن يكون هناك من لا يريد أن يرى في سورية “المقبولة”، إلا سورية “ميتة” تعترف مسبقاً بـ “الهزيمة”؟ ولماذا تلك الاشتراطات التي “تزين” وهم أن العودة للجامعة العربية عودة إلى “الفردوس المفقود” التي كانت خرجت منه إلى العالم السفلي، فيما “سيف” العقوبات والحروب “العربية العربية هذه المرة” مسلط على الكثير من الأشقاء، وليس على الصهاينة مثلاً؟ ولماذا لا ينتهي هذا العرس البربري الذي أراد إحالة سورية إلى “لا بلد”، تعيث فيه أصابع الفوضى والإرهاب والمتعاونين مع الغزاة فيما هو منارة للعروبة التاريخية والحديثة وقلعة للصمود وقلب العروبة النابض!!
من المؤسف أن يكون هناك من يضع شروطاً في وقت كان الأحرى به الاعتراف بالذنب وتقديم الأعتذار والمسارعة للتعويض بدلاً من الاستمرار بالمكابرة ومواصلة مشروع إراقة الدم تحت يافطات مختلفة، لعل آخرها كان محاولة النفخ (ومن على منبر الأمم المتحدة) في أبواق حرب قذرة انتهت، وإعادة الروح في معارضة أشبعت تفسخاً وتبعية، وكأن على الواقع العربي أن يبقى رهينة مرحلة شاذة صارت من الماضي وتوهمت فيها فوائض البترودولار بأنها قادرة على التحكم والاستفراد بالمصير العربي الواحد!!
.. فلنعترف بأن حصيلة عقد من المؤامرات والتدخلات والتمويلات ارتدت خسائر شاملة ومعممة لم تنج منها أي من الدول العربية، وفي مقدمتها دول خليجية لا تزال تعيش نوعاً من الانفصال عن الواقع، وتغرق الآن في تخبطات ورهانات سياسية وعسكرية وأمنية صعبة للغاية، إن لم نقل أنها خاسرة سلفاً، وتواجه فيها موجة من الارتدادات العكسية التدميرية.. لقد اكتسحت “الوهابية” و”الإخوانية” السعودية والقطرية المشهد “الثوري” العربي في إحالة موازية لثورة المحافظين الجدد في واشنطن، لتسقط الآن مع سقوط الإمبريالية الأمريكية بجنونها الانتحاري ورهاناتها التوسعية الفاشلة.
ما يمكن أن يرمم الموقف، على الأقل، هو العودة إلى الخط الأول، أو إلى نقطة البداية، والخروج من ثنائية مهزوم أو منتصر.. وهذا فقط إذا تحدثنا بلغة الأخوة العربية والمصالح المشتركة (القائمة دائماً وأبداً)، وآثرنا الصمت على الألم وطي الصفحة لاعتبارات “الصفح” و”التسامح” الصرفة. وكم كان السيد الرئيس بشار الأسد كبيراً ومهذباً ولماحاً عندما تحدث أول أمس إلى وزير الخارجية العماني مؤكداً أن “التعامل مع المتغيرات في الواقع والمجتمع العربي يتطلب تغيير المقاربة السياسية، والتفكير انطلاقاً من مصالحنا وموقعنا على الساحة الدولية”. والواقع فإن تغيير “المقاربة السياسية” يتطلب – أول ما يتطلب – الإقرار، الضمني على الأقل، بحجم وفداحة أخطاء الماضي، والعودة إلى تعريف مصالحنا وتحديد موقعنا وموقفنا – كعرب – من التحولات والمتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، وليس الخلط بين الأعداء والأصدقاء، أو اختراع معارك وهمية وجانبية، إن لم نقل إعلان الحرب على بعض أجنحة الأمة، ومحاولة إبادتها، بالمعنى الحرفي للكلمة.
إن تجسيد مفهوم الأخوة القومية والعودة بالمؤسسات العربية إلى سابق عملها يقتضي الاعتراف بالخطأ لتجاوزه وليس البناء على الخطأ للعودة للإنزلاق في الدوامة!!