تفسخ الأمن القومي الصهيوني
محمد نادر العمري
يعتبر مفهوم “الأمن القومي الصهيوني” من المفاهيم التي تروّج لها حكومات الاحتلال، وتحت مسمّى هذا المفهوم شنّت الحروب والاعتداءات واحتلت الأراضي وارتكبت المجازر، وفرضت اتفاقات كانت أقرب للاستسلام منها للسلام.
ومؤخراً، بدا واضحاً إعادة توظيف هذا المصطلح الذي لم يغب عن الخطاب الصهيوني، حيث نشر أحد المواقع الإلكترونية العسكرية الصهيونية ما سُمّي بـ”اللعبة الكبرى” للكاتب نيتسان ديفيد فوكس، الذي خدم في سلاح الجو سابقاً، حيث قدّم في دراسته تحليلاً للأسس الثلاثة لما يُسمّى “مفهوم الأمن” للكيان الإسرائيلي وهي: الردع، والإنذار المبكر، وحسم الحروب والمعارك بسرعة وبأدنى الخسائر، وهي الأسس ذاتها التي وضعها ديفيد بن غوريون في عام 1953 لجيش الاحتلال منذ ذلك الوقت، وبقيت قائمة بشكل عام حتى الآن.
وفي تحليله لهذه الأسس، وتبني استخدامها في كل ما شنّته حكومات الاحتلال من اعتداءات ومجازر، يؤكد فوكس أن الردع لم يحقّق المطلوب، لأن الصراع مع محور المقاومة ما زال مفتوحاً، ولأن الإنذار المبكر سقط منذ حرب تشرين عام 1973 ولم يعد له القيمة المطلوبة. أما حسم الحروب بسرعة وبأدنى الخسائر، فتاريخ الحروب في المنطقة يدلّ على عجز إسرائيلي بارز في تحقيق هذا الهدف، وخيبات الأمل بعد 2006 شاهدة على ذلك.
ويرى الكاتب أنه لتأكيد هذه المقاربة، يمكن الاستناد إلى حقيقة أن جيش الاحتلال، منذ غزوه لبنان عام 1982، لم يحقق الأسس الثلاثة لهذا المفهوم الأمني، وأثبت تاريخ الحروب الصغيرة على قطاع غزة، منذ عام 2007 حتى الآن، أن هذه الحرب لا تزال مستمرة من دون أن تحقق الردع أو الحسم، وهذا ما يعترف به كبار الجنرالات الصهاينة في تقرير حديث لمركز بيغن للدراسات، حينما استنتجوا “أن المشكلة في هذه الأسس الثلاثة جعلت إسرائيل غير قادرة على التفكير سوى بشنّ الحروب الشاملة كوسيلة من وسائل استمرارها، وأن محور المقاومة لم يكن له من خيار سوى امتلاك قدرات ردعية تسقط التفوق الصهيوني، وهو ما يقود لنقطة ثانية تتمثل في أن فقدان عامل التفوق الكمي لإسرائيل يجعلها عاجزة عن تحقيق انتصار تُخضع فيه أعداءها وتفرض إرادتها عليهم، وهذا يثبت أنها لن تستطيع تحقيق انتصار حاسم، ما يعني في الوقت نفسه أن أي إنجاز تحققه يبقى مؤقتاً وغير ثابت ودائم، بل العكس من ذلك باتت الهزائم ترهق إسرائيل”.
يتزامن هذا التحليل مع تقديرات عسكرية سربتها صحيفة “معاريف” عن هيئة الأركان نهاية شهر كانون الثاني الفائت، مفادها “أن كل الجولات الحربية لجيش الاحتلال لم تغيّر وضع التفوق المتنامي لمحور المقاومة بشكل جوهري، وفي واقع الأمر، يثبت تاريخ شنّ الحروب الإسرائيلية بعد كل انسحاب لجيش الاحتلال، كانت المقاومة تجبره عليه من دون شرط أو قيد، أن قدراتها تزداد أكثر فأكثر، سواء في جنوب لبنان، بعد عام 2000 و2006، أم في قطاع غزة بعد عام 2005، وأخيراً ما جسّده انتصار الجيش العربي السوري بشكل بارز” في حربه على الإرهاب المدعوم إقليمياً وأطلسياً.
لذلك، يستمد من هذا الواقع الاستنتاج بأن ما سُمّي بـ”القومية اليهودية”، ومن خلفها المنظمة الصهيونية، لم تنجح في الحفاظ على تفوقها العسكري، وهنا تكمن قيمة وحدة المقاومة التي تجمع أطراف وقوى محور المقاومة في مجابهة هذا الكيان المحتل لأراضي الجولان السوري وأراضي فلسطين. والدليل على ذلك الحالة المعنوية المتردية للمستوطنين الصهاينة ذوي الجنسيات المختلفة، فحين ينظر هؤلاء المستوطنون إلى هذه المقاومة التي تقلق كل مظاهر وجودهم وحياتهم، وفشل جيش الاحتلال في حسمها وإنهائها، يشكون في ضمان بقائهم في الأراضي المحتلة ويفقدون ثقتهم بقدرة جيشهم ومن يدعمه من القوى الكبرى على حمايتهم. وحتى في ظل التمسك بالحقوق وتغيّر موازين القوى، تترسخ لدى هؤلاء المستوطنين قناعة بأنه حتى في هذه المرحلة لن تكون الولايات المتحدة قادرة على حماية هذا الكيان، وستجبر أمام الواقع على التسليم بهزيمته أمام شعوب مقاومة لم تتنازل عن حقوقها ومستقبلها فوق وطنها وتراثها التاريخي الديني والقومي.
وأمام وقائع تخلي واشنطن عن جيش أفغانستان الذي أنشأته وسلّحته بعد عشرين سنة من الدعم والبناء المستمر لقدراته، بدأ المستوطنون يدركون أن هذا المصير سيلاقيهم لا محال في المستقبل القريب، وأن مفهوم الأمن القومي لم يعد سوى شعار يطرحه السياسيون والعسكريون الصهاينة في مزايداتهم فقط، وهذا ما يدفع المستوطنين للتمسّك بجنسياتهم الأوروبية والأميركية القابلة للاستخدام من أجل العودة إلى دولهم الأصلية.