الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في زيارة له

عبد الكريم الناعم

لم يستطع مقاومة رغبته، فثمّة إلحاح لا يُردّ لرؤية ذلك الشيخ الجليل، هو نفسه كثيراً ما تساءل من أين لهذا الرجل كلّ ذلك الصفاء، وكيف استطاع الوصول إلى تلك الأعالي، فهو لم يدرس في جامعة، ولم يتجاوز تعليمه الرسمي حدود المرحلة الأولى، وانصرف بعدها للعمل مع أبيه في قطعة أرض صغيرة، جعل منها جنّة له، وكان وهو يعمل يحمل كتاباً، فإذا وجد فرصة لبعض الراحة فتح كتابه تحت إحدى الشجرات، وانصرف إليه، تجالسه فتشعر بعد مغادرته أنّك شخص آخر، لديه مكتبة نادرة فيها الآلاف من الكتب المختارة، لم يتزوّج، وبين فترة وأخرى تزوره أخته وتُرتّب بعض أمور بيته، فيبتسم لها ويقول “وأنا أستطيع أن أفعل هذا”.

استقبله ببياض شعر في الرأس والوجه، وبألق في العينين، ولم يعاتبه على غيابه، بل عبّر له عن شوقه لرؤياه، بعد فترة صمت معبّأة بالبياض، قال له: “كيف أحوالك”؟.

أجابه: “أقول الحمد لله، وأنا مُثْقَل بالهموم المتناسلة، والتي لا تتوقّف”.

قال له: “أتريد للهموم أن تتوقّف؟”.

قال: “لا أجد فرصة لشيء اسمه البهجة”.

قال له: “أنا أدلّك، أوْقف الزمن”.

أجابه شبه مستنكر: “ومَن يستطيع أن يوقف الزمن”؟!!.

قال: “إذن عليك التّأقلم، وأنا هنا لا أعني أن تتأقلم مع الشرّ، والظلمة، والفساد، وما هو سلبيّ، بل أن تتأقلم مع ما هو نورانيّ، ماديّاً ومعنويّاً”.

قال وفي ملامحه ما يُشبه الانكسار: “نحن نراهن على المستقبل”.

قال له بما يوحي بالمُداعبة: “عن أيّ مستقبل تتكلّم، اسمح لي أن أتأمل هذه النقطة وجوديّاً وفلسفيّاً، إذا نظرتَ إلى الزمن بعين البصيرة فستجد أنّنا نعيش في الماضي باستمرار، على حدّ رأي أكثر من حكيم”.

قال له: “لم أفهم”.

أجابه: “نحن في هذه اللحظة نسمّيها لحظة الحاضر، ولكنّها ما أن تدخل في مسار عَتَبة محدّدة حتى تكون قد صارت ماضياً، إذن نحن أبناء الماضي، ومستقبلنا تصوّر، وهذا لا يتناقض مع طموحاتنا المشروعة في أن نبني، وأن نخرج من الركام، وأن لا نستسلم للعدوّ، وأن نحارب الفساد والشر حيث وُجِد، بل واجبنا الأخلاقي الإنساني أن نفعل ذلك”.

قال له: “جزعتُ حين قلت إنّنا أبناء الماضي، فقد ذقنا من الذين يتذرّعون بالماضي ما أنت أعلم به مني، وكلامك السابق ذكّرني بقول للإمام عليّ (ع) “ما فاتَ مات، والآتي غيب، ولك الساعة التي أنت فيها”.

أجابه: “جميل ومفيد ما ذكرتَه عن هذا الإمام العظيم، لقد غاص في كلمته تلك إلى أعماق وجوديّة واسعة، ما فات مات، بمعنى أنّه لا يمكن استرجاعه، والآتي غيب، فمن منّا يعرف ما كُتِب له بظهر الغيب؟ أمّا اللحظة التي نحن فيها، زمننا، مرحلتنا، ما نأمل أن ننجزه، يتمّ من خلال إدراك ذلك، وهذا يعني أنّ لا نلتفت إلى الماضي إلاّ بمقدار ما يشكّل لنا من حافز إيجابي، بعيداً عن أيّة عنصريّة، ودون تبجّح، ودون أن ندّعي ما لم يكن، والذي يتهافت حين نفتّش فيه، ولا تنسَ أنّ هذا الإمام، صاحب ذلك القول، مع فهمه العميق لما ذكرتَ، دفع حياته ثمناً دفاعاً عن الحقّ، وطلباً للعدل، ولم يساوم في ذلك رغم أنّ العديدين انفضوا عنه لأنّه لم يبسط يده لهم بالأعطيات، فقد كان يرى أن بيت مال المسلمين هو حقّ لمن يجب الإنفاق عليهم، بحسب ما نصّ كتاب الله، القرآن الكريم، وبحسب سنّة رسوله صلوات الله عليه وآله، أمّا قولته التي ذكرتها فهي واحدة من تأمّلاته العميقة  النّادرة”.

aaalnaem@gmail.com