في انتظار العدم
استلهم صموئيل بيكيت من الفلسفة الوجودية التي خطها ألبير كامو وجان بول سارتر في أوائل العشرينيات من عمره، وتبدت بجلاء في مسرحيته “في انتظار غودو” التي لا يحدث فيها شيء مهم، لتوصل فكرة أن العدم هو أصل وجودنا، خاصة في حياة الإنسان المعاصر.
نرى في المسرحية التقليدية حدثاً منفرداً يحفز المسرحية بأكملها، لكن ما يغذي كل شيء في مسرحية “في انتظار غودو” هو إحساس بـ “العدم”، بمعنى آخر: اللاشيء يوجِد كل شيء، وهذا ما يحدد مسار المسرحية بأكملها.
كان بيكيت يعتقد أن بناء ومحتوى أية مسرحية يجب أن يكونا متكاملين، وألا ينفصل بعضهما عن بعض، وفي المسرحية التي نحن بصددها، ينظّم شعور محيط بالعدم بناءها ومحتواها، وكل مكوّن خارجي وداخلي من المسرحية يؤدي دوراً مكملاً لتأسيس فكرة “العدم”، كما أن كل جانب من جوانب المسرحية: البناء أو الموضوع أو الإطار الزمكاني أو الشخصية أو الحوار أو بعض الأنشطة السلوكية الصامتة الأخرى، يحركه العدم وحده، و”العدم” هنا يشير إلى “كل شيء”، واجهه المعاصرون جسدياً ونفسياً بعد حربين عالميتين.
وحتى نفهم كيف للعدم أن يوجِد كل شيء في مسرحية “في انتظار غودو”، علينا أن نلتفت إلى الأحداث التي وقعت خلال النصف الأول من القرن العشرين في عوالم السياسة والأدب والفلسفة والدين، حيث شهدت تلك الفترة حربين عالميتين، وولِد فيها أسلوبان أدبيان، هما الحداثة وما بعد الحداثة، وهذا مهّد الطريق لظهور المسرح العبثي الذي كان انعكاساً للعصر، فهو يصف حالة مزاجية، وانطباعاً عن الحياة يكون فيه وجود الإنسان معضلة لا معنى لها ولا غاية وبلا جدوى، وهذا رفض قاطع للقيم القديمة، لهذا لا نرى حبكة ولا توصيفاً ولا تسلسلاً منطقياً ولا ذروة، وهو ما قدمه صموئيل بيكيت في المسرحية.
يؤثر أسلوب العدمية بإطار المسرحية الزماني والمكاني، فنرى طريقاً ريفياً مهجوراً وحفرة وشجرة مرداء، تشكّل بجمعها المنظر الطبيعي القاحل الذي يطفح بالرمزية، فيرمز لحياة عقيمة وغير مثمرة، لا شيء يمكن فعله، ولا مكان أفضل للسفر إليه، ويبدو أن الشجرة التي تكون عادة رمزاً للحياة بأزهارها وثمارها أو إشارة إلى الربيع، هامدة وميتة، وهذا ينسحب أيضاً على المكان الذي تعتقد الشخصيتان الرئيسيتان أن غودو قد طلب منهما القدوم إليه، ويشابه حالة ما بعد الحرب التي اتسمت بعدم اليقين واليأس والتحديات الجديدة للبشرية جمعاء.
تأتي بعد ذلك الحبكة، حيث يُحدد إحساس بالعدم كذلك بداية ونهاية المسرحية التي لا يحدث فيها شيء، وفيها لا يأتي أحد ولا يغادر، والمسرحية خالية من البناء الأرسطي التقليدي، حيث توجد بداية ووسط ونهاية مثالية، فهي لا تروي قصة، بل تستكشف حالة هامدة: على طريق ريفي، ينتظر متشردان مسنان، فلاديمير واسترغون، بجانب شجرة، هذه هي الحالة التي تفتح الفصل الأول، وفي نهاية الفصل يُبلغ المتشردان أن السيد غودو الذي يعتقدان أن لديهما موعداً معه، لا يمكنه الحضور، لكنه سيأتي غداً بالتأكيد، يكرر الفصل الثاني النمط نفسه تماماً، ويصل الصبي نفسه ويسلم الرسالة نفسها، لذا تنتهي المسرحية حيث بدأت بالضبط، وبهذه الطريقة يعمل الإحساس بالعدم أو انعدام الهدف عمل القوة المحركة في المسرحية.
وتصوير الشخصيات في المسرحية يزيد من الإحساس بالعدم، إذ لدينا خمس شخصيات غير بارزة، وليست لديها دوافع مقنعة، فنرى فلاديمير (ديدي) واسترغون (غوغو) ينتظران غودو بجوار شجرة على طريق ريفي، وهو شخص لم يلتقيا به قط، وربما ليس موجوداً، وأثناء انتظارهما يتجادلان ويختلفان ويعتزمان الانتحار، ويناقشان مقاطع من الإنجيل، وتنتهي المسرحية بمحاورة شهيرة:
– فلاديمير: حسناً، أنمضي؟.
– استراغون: هيا بنا.
– (لا يتحركان).
يتوقع المرء أن تُمتع المسرحية الجمهور بحوار ذكي مبني منطقياً، ولكن يبدو أن الحوار في هذه المسرحية قد انحدر إلى ثرثرة لا معنى لها، تتكرر فيها عبارة “لا جدوى”، والحوارات التي تتبادلها الشخصيات تافهة، ويستخدمون ألسنتهم ليشعروا بالفراغ بينهم، وليخفوا حقيقة أن لا شيء لديهم ليتحدثوا عنه بعضهم مع بعض.
ونجد في المسرحية مواقف سلوكية أكثر أهمية من الحوارات لأنها تعكس الإحباط والتردد والعقد النفسية لدى المعاصرين، وفاتحة المسرحية مثال رائع على ذلك، فعندما يرفع الستار نجد أن استرغون يحاول عبثاً انتزاع حذائه، ويرمز فشله المتكرر إلى خواء أنشطة الحياة اليومية من المعنى، بل ترمز أكثر إلى خواء الحياة نفسها من المعنى، ونرى طوال المسرحية العديد من المواقف السلوكية التي تعكس عدمية حياة الإنسان.
وبغية أن نفهم ختاماً كيف للعدم أن يشكّل كل شيء في المسرحية من منظور آخر، بوسعنا مقارنتها بمسرحيتي “المأساة الاسبانية”، و”هاملت”، فالمحرك الرئيسي في هاتين المسرحيتين هو الانتقام، وهو ما ينظّم كل شيء فيهما، ولكن في مسرحية “في انتظار غودو”، يؤدي الإحساس بالعدم دوراً محورياً في تحديد كل جانب من جوانب المسرحية، لذلك، يشكّل العدم كل شيء فيها.
إعداد: علاء العطار