الفن الآسر
سلوى عباس
في مساء خريفي ضجر أتتني دعوة السيدة إيمان الخطيب مديرة إذاعة دمشق، للمشاركة في برنامج “خاطرة” إلى جانب نخبة من الكتّاب والأدباء السوريين، كنسمة ندية تحيي يباس الروح وتعيد لها النسغ والأمل، دعوة فتحت لي نافذة إبداعية من نوع آخر لم أخض غماره من قبل، فكم هو جميل أن تسمع ما تخطّه روحك من بوح إنساني وحياتي بصوت إذاعي عذب ومتميّز.
أعادتني هذه الدعوة إلى زمن كان الراديو رفيقاً أنيساً ووديعاً، والوسيلة الأهم للتواصل الإنساني، هذا الفن الذي يأخذنا إلى حالة من التألق والجمال، ويبتكر لنا وجبات متنوعة من الحياة، في زمن أحوج ما نكون فيه لمساحة من الحب والأمل، مساحة نعود فيها إلى أنفسنا نستعيد من ذاكرتنا لحظات عبرت وتحولت إلى ماضٍ لازلنا نحتفي به ونهرب إليه من تعب الحياة، ماض جميل حيث كانت الشمس تغازل صباحاتنا بنهار مشرق بالحياة عبر برامج إذاعة دمشق، وعبارة “هنا دمشق- إذاعة الجمهورية العربية السورية” تطرق أسماعنا بكثير من الحب والنشوة الغامرة. ولعلّ المحطة الأجمل التي رافقت صباحاتنا هي برنامج “مرحباً يا صباح”، هذا البرنامج الصباحي الذي كان يرافق استيقاظنا ويرتّب لحظات يومنا واستعدادنا للذهاب إلى مدارسنا ونحن صغار، ويمنحنا حالة من الحبور لا توصف، وصوت المذيعين منير الأحمد ونجاة الجم يدعونا للحياة، وهما يحتفيان بالصباح، ولازال هذا البرنامج مستمراً حتى الآن بلمسات زملاء شغوفين بالإذاعة هذا الفن الآسر.
اللحظات التي أعيشها وأنا أستمع لإذاعة دمشق تعيدني بالذاكرة إلى زمن بعيد يحمل الكثير من الجمال والبساطة والعفوية، هذه الإذاعة التي لازالت تحافظ على هويتها النابضة بالحب والجمال كما عهدناها، مع مواكبتها التطور الذي يفرضه تسارع العصر، فالراديو مازال محتفظاً بأهميته ودوره رغم تعدّد الوسائل الإعلامية وتنوعها، والدليل على استمراره وبقائه هو الإذاعات الجديدة التي تظهر، ولازالت عبارة “عزيزي المستمع” تحمل السحر والألق الذي جذب المستمعين منذ نشأة الإذاعة حتى الآن، وهي مهنة فيها من الغنى والثراء الكثير مما يتيح التنوع في أسلوب العمل بين برامج المنوعات والحوارات وغيرها من الأنواع الإذاعية، وليس من اللائق التعالي عليها، بل التعامل معها بكل المحبة لتحقق نجاحاً مهنياً، حيث يمتلك المذيع أدواته وأسلوبه في العمل الذي يميّزه عن الآخرين، ولأنها تتيح للمذيع اللعب على خيال المستمع عبر المؤثرات الصوتية، إضافة إلى أن الإذاعة ما تزال تتمتع بدور إيجابي وفاعل، وقد خدمها التطور التكنولوجي بتوفير هذه الخدمة في وسائل متعدّدة كالسيارات والموبايلات والانترنت، حتى أنها وصلت إلى الأرياف البعيدة، وهذا يرتّب على الإعلامي الإذاعي أن يتعب على نفسه كثيراً، فلا يصح أن يدخل الإذاعة بشكل اعتباطي، لأنها عالم قائم بذاته يعطي وجبة ابتكار كاملة يستطيع الإنسان أن يعمل فيها على نفسه.
منذ أيام أضاءت إذاعة دمشق شمعتها الخامسة والسبعين، وقد حضرت في خاطري كل الذكريات التي عشتها وعاشها الكثير من السوريين الذين كان الراديو رفيقهم، هذه الذكريات التي استحضرتها كجزء من تاريخ إذاعة أحببناها ولازالت تعني لنا الكثير. إنه الحلم في ربيعه الأبهى يشعّ من هذا المنبر الجميل والمهمّ الذي شكل ذاكرتنا وكان وسيلتنا للمتعة والفائدة، منبر كان ولازال يعبر عنّا ويشكل وسيلتنا في التواصل مع الآخرين.