الألعاب الأولمبية مسرح كبير لحرب خفية بين الدول الكبرى…والتجسس أخر صيحاتها
البعث الأسبوعيّة-سامر الخيّر
تتصدر الألعاب الأولمبية الشتوية المشهد الرياضي هذه الأيام، وخاصةً بعد الهرج الأمريكي الذي سبق الافتتاح بأشهر، ليشكل الافتتاح كما هو متوقع تفوقاً صينيّاً جديداً في ميدان الرياضة، ولكن هل ما حدث هو سابقة؟ وهل هناك خيوط خفية مداها أبعد من ميادين الرياضة؟
فلا يخفى على أحد استغلال القادة السياسيين للرياضة والرياضيين عبر التاريخ، وذلك لتلميع صورتهم وتسهيل الوصول لغاياتهم خاصّة، حتى بات على المتابع الرياضي أن يكون محللاً سياسياً ليتمكن من فهم ومتابعة ما يجري على الملعب ويهتف به على المدرجات، بل وحتى ما تقرره اللجان التحكيمية، ويصعب الفصل بين الرياضة والسياسة خصوصاً في كرة القدم نظراً لشعبية هذه اللعبة التي تجعلها حاملاً ومسوقاً للشعارات والرسائل السياسية.
وربما تكون الألعاب الأولمبية أكبر مسرح لهذه الظاهرة، فقد استطاعت احتواء حرب خفية بين عدة أطراف على امتداد دوراتها، وربما نعيش اليوم حرباً جديدةً تتكشف ملامحها حدثاً بعد حدث، يضرب فيها التنين الصيني بقوة ويتحالف مع الروس في وجه الأمريكان، مع إدراك أن ما لم يتم حسمه في الميدانين العسكري والسياسي يمكن أن يحسم في الملاعب الرياضيّة تتصاعد أدخنة التوتر بين هذه البلدان.
ولأن الرياضة والرياضيين هم جزء من المجتمع ويعبرون عن مدى تقدم الشعوب وتأخرها، بالتالي هم يعكسون رسالته الإنسانية ورسالة الدول إلى العالم وقضيتها إلى الإعلام العالمي، حيث عمد كل طرف إلى استغلال المناسبات الكبرى التي استضافها هو أو أحد حلفائه الاستراتيجيين من أجل تسجيل نقطة على الطرف الآخر وانتزاع تعاطف الرأي العام.
في البداية كانت الحرب بين طرفين الروسي والأمريكي، وبدأت الرياضيّة بينهما جنباً إلى جنب مع الحرب الباردة بين الطرفين، حيث أعلنت الولايات المتحدة مقاطعة أولمبياد موسكو عام 1980، كجزء من حملة من الإجراءات التي بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية للاحتجاج على الحرب السوفياتية في أفغانستان، واستمالت واشنطن إلى جانبها نحو 60 بلداً، لكنها لم تتمكن من إفشال الألعاب، لأن عدداً من البلدان الغربية التي أيدت المقاطعة منحت رياضييها حق المشاركة في الألعاب تحت الراية الأولمبية، ليقود بعدها الاتحاد السوفيتي هذه المرة حملة لمقاطعة أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، وانضمت إليه بلدان المعسكر الاشتراكي، وكان الادعاء أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم الألعاب لتحقيق أرباح تجارية، وتجددت هذه الحرب بعد الإشكالات التي لاحقت روسيا قبل نيلها شرف استضافة كأس العالم 2018، حيث تم توظيف السياسة للطعن في أحقيتها في استضافة المونديال، ليأتي نجاح الولايات المتحدة في اتهام الحكومة الروسية بإعطاء للاعباتها ولاعبيها المنشطات بشكل منظم، وكانت النتيجة عقاباً رياضياً دولياً لروسيا ومنعها من المشاركة الرسمية في دورة طوكيو الماضية، مع السماح للاعباتها ولاعبيها باللعب تحت العلم الأولمبي، كما لن يسمح لها في المشاركة في كأس العالم لكرة القدم 2022 الذي سيقام في قطر، لكن الروس ردوا بأفضل طريقة ممكنة بعد الفوز بـ 71 ميدالية منها 20 ذهبية وهو أكبر رصيد أوليمبي منذ أثينا 2004، واستقبلت رياضييها استقبال الأبطال في الساحة الحمراء الشهيرة معلنةً بأنها كانت وستبقى قوة رياضية عظمى، رغم أن الولايات المتحدة اعتبرت أن احتلال روسيا المركز الخامس في جدول ميداليات طوكيو بمثابة انتصار لها، بعدما كانت روسيا الأولى في برشلونة 1992 ثم بدأت تتراجع تدريجياً حتى المركز الخامس في طوكيو.
أما آخر الترهات التي خرج بها المعسكر الغربي إن صح التعبير فهو المخاوف من التجسس أثناء دورة الألعاب الشتوية، حيث سيتم تزويد المشاركين الألمان في الأولمبياد بهواتف محمولة خاصة يوصي بها الاتحاد الألماني للرياضات الأولمبية باستخدامها بسبب مخاطر التجسس وينصح بعدم استخدام الهواتف الخاصة، مع إمكانية تثبيت تطبيق “ماي 2022” في الأجهزة المستعارة، وهو تطبيق إلزامي من قبل المنظمين، دون الحاجة إلى القلق بشأن الكشف عن البيانات الشخصية عبر التطبيق ودون ملاحظة ذلك، كما أعلن البريطانيون أنهم سوف يزودون الرياضيين بهواتف محمولة جديدة طوال مدة المسابقات، إذا رغبوا في ذلك، أما اللجنة الأولمبية الوطنية الهولندية فذهبت إلى أبعد من ذلك ودعت الرياضيين والمدربين إلى ترك أجهزتهم الشخصية في منازلهم، وبدلاً من ذلك، ستوزع اللجنة أجهزة “نظيفة” لهم ليتم إتلافها بعد العودة إلى بلدهم.
لكن الصين وروسيا رغم كل هذه الحركات الغربية سجلتا نصراً مسبقاً حتى قبل بداية الألعاب الأولمبية، حيث أعلنتا قُبيل حفل الافتتاح شراكة “بلا حدود” بينهما لتدعم كل منهما الأخرى في مواجهاتهما الدولية مع تعهد بزيادة التعاون في مواجهة الغرب، وما كان على الولايات المتحدة سوى إبداء امتعاضها لهذه الخطوة منتقدة كل طرف على حدة، وستتوج هذه الخطوة بإنجاز تاريخي للبلدين في الألعاب حيث أعدت الصين أكبر بعثة وحضرتها لاكتساح المشهد الثلجي، وكلنا نعلم قوة الروس في هذه الرياضات، لذا سيضطر الأمريكان لإعلان خسارتهم جولةً جديدةً من هذه الحرب الخفيّة التي ستمتدّ إلى سنوات تالية نظراً لمرونة أدواتها فالرياضة مستمرة بالضرورة ما بقي البشر، أمّا الحروب والضغوطات السياسية التقليدية فباتت في خبر كان مع تطوّر التكنولوجيا وتقدمها.