غسان مسعود لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية: تدرسون في ظروف صعبة وعليكم عدم الاستسلام
البعث الأسبوعية-أمينة عباس
بعد سنوات طويلة من غيابه عن المعهد العالي للفنون المسرحية عاد الفنان غسان مسعود إليه مكرَّماً ومحتفى به كطالب تخرج فيه وكأستاذ درّس فيه وكممثل مسرحي بقي مخلصاً للمسرح بعد أن هجره الكثيرون، وبدا التأثر الكبير واضحاً عليه عندما استُقبل بحفاوة كانت إدارة المعهد ممثلة بعميده د.تامر العربيد حريصة على أن تليق بابن المعهد وأستاذه، وقد شارك فيها طلاب المعهد من خلال تقديم عدة لوحات في قسم الرقص بإشراف أ.معتز ملاطية لي، الأمر الذي جعل مسعود يتساءل بتواضع الكبار: “هل فعلاً أستحق تعب الطلاب للتحضير لهذا الاحتفاء؟” شاكراً د.العربيد على دعوته لأنه عاد إلى بيته الذي تربطه به علاقة وجدانية، وقد اشتاق إليه وهو المكان الذي له أفضال كثيرة عليه، مؤكداً أن ما رآه جعله يشعر أنّ روحاً جديدة تسيطر عليه: “لذلك ينبغي رعايته لأنه يضمُّ أجيالاً تستحق الحياة والفرح في بلد مليئة بالمواهب، والمطلوب تأمين مناخات وظروف لها لتستطيع أن تعبّر عن نفسها”.
خارطة طريق
ولثقافته العالية والراقية ولتجربته الغنية ولاحترامه الكبير للمكان الذي درس فيه وتخرج منه ومن ثم عاد أستاذاً إليه لم يكن حديثه مع الطلاب حديثاً عادياً أو مجرد حديث أستاذ قدير مع طلابه أو حديث فنان كبير مع من يخطو خطواته الأولى في عالم التمثيل، بل كان حديث العارف والأكاديمي والعالم دون ادعاء، والأهم أنه كان حديث الأب الحريص على أبنائه في كل كلمة قالها دون أن ينجرّ وراء بعض الأسئلة التي تغري إجابتها وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك كانت كلماته خارطة طريق لكل طالب من الصعب أن يسطرها إلا هو الذي لم ينس أستاذه فواز الساجر الذي كان له الفضل في أن يتوجه إلى المعهد ليدرس فيه بعد أن كان طالباً في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق.
المسرح فن تراكميّ ونوعي
وبيّن غسان مسعود في حديثه للطلاب أن جيله كان محظوظاً أثناء الدراسة لأن سورية في الثمانينيات كانت منفتحة على الغرب نسبياً على الرغم من أنها كانت مع الشرق كلياً، وهذا ما جعل القيّمين على الثقافة بشكل عام وعلى المعهد بشكل خاص يستعينون بخبرات من المدرستين الشرقية والغربية رغم اختلافهما نسبياً في ذلك الزمان بالتعاطي مع المسرح، ومن هذين المشربين الكبيرين جاءت إلى المعهد الخبرات الأولى التي تلقى فيها الطلاب العلوم، فكانوا محظوظين برأيه لأنهم شربوا من ماءين كلاهما كان ضرورياً لفنان المسرح كي تكتمل الصورة، وقد استطاع أساتذته أن يشكلوا منهجاً، ومن بعدهم جرّب جيله إكماله بعد أن شكلوا منهجاً محكماً لبناء الممثل مما ساعد على إنتاج جيل مسرحي متمكن، مشيراً إلى أنه عندما اشتغل في التدريس فيما بعد نقل هذه الخبرة، دون أن يخفي أنه قبل هذه الفترة كانت العروض المسرحية تنقل من أوربا عبر خريجين في جامعات معروفة، لكنهم كانوا ينفّذون أعمالاً ليست لهم على مستوى الهوية مما جعل الجمهور في الفترة من 1972-1976 و1980 ينفضّ عن المسرح لأن التجارب كانت تُنقل كما هي دون الأخذ بعين الاعتبار أنها تقدم في دمشق ولجمهورها، إلى أن استطاع جيل الثمانينيات أساتذةً وطلاباً نقل المسرح السوري إلى مرحلة جديدة بوجود فواز الساجر وفيما بعد فايز قزق الذي كان عائداً من لندن، وقد حاول مع غسان مسعود تشكيل هوية شخصية على مستوى التمثيل والإخراج والتدريس انطلاقاً من فهم مسعود المخرج أن معلومات الكتب (النظريات الإخراجيّة والكتابيّة) هي أجسادٌ ميتة، والقناعة بأن العرض المسرحي يقدَّم في سورية، وبالتالي كان عليه كمخرج أن يخوض تجربته الشخصية مستفيداً من تجارب العالم على مستوى العناصر الأساسية لبناء العرض المسرحي الذي يجب أن يحقق المتعة والفائدة بالمقدار نفسه، مبيناً أن واجبه كأكاديمي كان يحثّه على الاشتغال على ما يسمى الإيقاع البصري والثقافة البصرية وتكريسها عبر التراكم لأن المسرح برأيه فن تراكمي ونوعي لاستخدامات عناصر العرض المسرحي الجديدة.
أهم من الإخراج وأصعب منه
بعد عدة سنوات من وجوده في المعهد كمدرس اعترف غسان مسعود أنه وصل إلى مرحلة تعب فيها فأرسل رسالة لأستاذه الذي علّمه في السنة الأولى وقال له: “لا تترك التدريس فإن التدريس كأنك تركب مركباً رائعاً يعبر المحيطات وفي كل مكان تصل إليه تكتشف جزيرة جديدة” مؤكداً مسعود أن التدريس عملية اكتشاف متواصلة لفن التمثيل والإخراج ومعرفة عميقة بالجسد والصوت والعواطف، فهو رحلة اكتشاف مستمرّة لا تقف عند أحد، وهو بهذا المعنى قد يكون أهم من الإخراج وأصعب منه، وأحياناً يكون أصعب من التمثيل لأن الأستاذ برأيه يذهب إلى أمزجة طلّاب، كل واحد منهم من بيئة وتربية وثقافة مختلفة، وعلى المدرّس أن يدخل إلى عقولهم جميعاً كي يؤلّف بينها وينشئ معهم علاقة ليمشي معهم إلى مرحلة التخرّج، وبناء عليه فإن التدريس تجربة بحدّ ذاتها أكسبت مسعود الخبرة والمعارف الجديدة في التمثيل والإخراج وما منعه من الاستمرار فيه في السنوات الأخيرة ارتباطاته وانشغاله، وقد وعد إدارةَ المعهد وطلابه بأنه لن يتوانى عن تخريج إحدى الدفعات ما إن يتوفر الوقت المناسب.
الثناء كلمة خطرة
وحول كلمة الثناء التي ينتظرها عادةً الطالب أو الممثل أوضح مسعود أنها موضع خلاف كبير بينه وبين أولاده في البيت لأنه لا يستخدمها دائماً لأن مهمته كأب أن يقول السلبيات كي يتجنبوها، أما الإيجابيات فهي تحصيل حاصل، والجمهور هو الذي يجب أن يقولها إن وجِدَت، موضحاً أن كلمة الثناء كلمة خطيرة، خاصةً في هذه الأيام لأنها تجعل الممثل مغروراً، لهذا يقال أن النجاح أصعب من الفشل لأنه يحتاج الكثير للحفاظ عليه وتكريسه وحمايته من الأمراض النفسية، وأولها الغرور، لذلك لا ينصح أحداً أن يستكين لكلمة ثناء لأنها قد تعطي مفاعيل سيئة لشخصيته، خاصّةً الثناء دون تبرير، وهو لا يكون مفيداً برأيه إلا عند العاقل والمتوازن، مستغرباً مسعود من شباب اليوم الذين يعطون آراءهم حول فيلم أو عمل مسرحي وهم ما زالوا طلاباً لم يخطوا إلا خطواتهم الأولى في عالم الفن، في حين أن الرأي هو مخزون كبير ونتاج تجربة وتراكم كمي ومعرفي وتطبيقي ونجاحات متتالية على أرض الواقع، وبهذا المعنى لا يحقّ للطالب برأيه أن يكون له رأي، داعياً الطلاب ألا يستعجلوا في تصدير آرائهم كما يحدث اليوم في السوشيال ميديا التي أتاحت المجال لإطلاق أحكام مطلقة وآراء لا تستند على أساس معرفي، مبيناَ في الوقت نفسه أن الممثل كي يكون جديراً بكلمة فنان فيجب أن يتمتع بالموهبة والمعرفة والعمل أولاً، متوجهاً إلى الطلاب بالقول: “إن لم تعمل ما تحب أحب ما تعمل إلى أن يأتي ما تحبه فتعمله” إلى جانب الصبر والحلم والحرية بمعناها المسرحي “الحرية الداخلية” فعندما تتوفر هذه الشروط وتتوج بمنجز في المسرح يستحق الممثل كلمة الفنان وهو ذلك الممثل الذي عبّر بالمسرح تمثيلاً وإخراجاً وتعليماً وثقافةً، منوهاً إلى أن القلق والشك خاصية إبداعية ليست مرتبطة بفن الممثل فقط بل بكل أشكال الإبداع وهما سرج الفنان وحصانه اللذان يحرّضان الذاكرة الانفعالية والخيال على الإنجاز والإبداع والإنتاج.
الممثل وحش
ورفض غسان مسعود ردّاً على بعض الأسئلة التي تغري إجاباتها الطلاب الخوض في بعض المشاكل التي تعرض لها في المعهد أثناء دراسته ودعاهم إلى العمل والاجتهاد والابتعاد عن المشاكل والبحث عن التميز ومحاولة الاستفادة من وجودهم فيه قدر الإمكان والتعلم من أخطائهم في ظل وجود أساتذة أكفاء مهمتهم تصويب بوصلة فن الأداء لدى كل طالب ومساعدته عبر التقنيات في التعرف على جسده وصوته وكيف يستنبط من خياله وذاكرته الانفعالية عوالم شخصيته، مع تأكيده على أن عمل الأستاذ ليس أن يعلّم التمثيل لأن التمثيل موهبة، والأستاذ لا يستطيع منحها لأحد، أما المظلوميات التي يشتكي منها بعضهم فهي ذريعة كبيرة في الوسط الفني، لذلك دعاهم للاجتهاد والصبر والعمل: “اعمل كأن فرصتك غداً واصبر كأن أيوب كنيتك، في هذه الحياة لا أحد يعطيك شيئاً، كل من فيها يدفعك باتجاه الحفرة لا أحد يمد يده لك كي تخرج منها وعليك أن تخرج بنفسك وتنتزع حقك بيدك هذه معركة الحياة فلا تشتكي لأن من يشتكي هو الأردأ”.. من هنا شدد مسعود على أن يهتم الطالب بعمله وفق المهمة المقترحة عليه من أستاذه الذي يراقبه ويدله إلى طريق الصواب، مؤكداً أن المعهد يضم أساتذة فدائيين يعملون بعيداً عن الشهرة والأضواء والمال ويجب احترامهم وتقديرهم وعدم التطاول عليهم، مشيراً إلى أن أحد تعريفات بيتر بروك للممثل أنه وحش ليؤكد أن الممثل عندما يقف على خشبة المسرح يشتغل بالغريزة ولا يعطل عقله بل يريحه قليلاًليستنهض الطفل في داخله كي يلعب ومن ثم يركّب عليه مفهوم الوعي والتحكم بالشخصية.
الشاعر والممثل
وحول اغتراب الطالب عن محيطه بعد دخوله إلى المعهد أكد الفنان مسعود أن مهمة المعهد إعادة الطالب إلى المجتمع كعنصر فاعل وقادر على التفاهم والتواصل معه أكثر وإلا من أي يأتي بفنه؟ والطالب برأيه إنْ لم يفهم مجتمعه وأهله ولايكون قادراً على التواصل معهم واستيعاب من حوله فإن المعهد يجب أن يعلمه ذلك لأنه عندما يصبح ممثلاً سيجسّد شخصياته باستحضارها من المجتمع وليس من المريخ، ودون هذا التواصل البناء والخلاق مع الناس لن ينجح في تقديم شخصيات من لحم ودم، إلى جانب استخدامه لأدواته الإبداعية الأخرى كالذاكرة الانفعالية، وهي مخزون الطفولة والشباب بما فيها من أفراح وأتراح ومشاكل وعقبات وموت وحياة ويجب أن يغرف منها الطالب والممثل وهو يؤدي شخصيته على المسرح والتي تساعده في مسألة الصدق الفني، منوهاً مسعود إلى أن الطالب في السنة الأولى قد يحتاج إلى عدة أشهر كي ينجز الشخصية مع أستاذه، وفي السنة الثانية يحتاج لوقت أقل بعد أن يكون قد تعرف على أدواته الإبداعية ومفهوم التركيز وأشياء أخرى، وفي السنة الرابعة يكون حاضراً كممثل يستطيع أن يحضّر الشخصية بزمن قياسي ولا يحتاج أكثر من 30 بروفة، وعندما يصبح محترفاً لا يحتاج لمفهوم الوقت التقليدي الذي يحتاجه ممثل المسرح في المعهد إلا في حالة واحدة هي عندما يخضع لبروفات البحث والحفر في الأعمق لاستنباط أشكال أدائية أكثر عمقاً ونضجاً، وهذا يحدث غالباً برأي مسعود في الارتجال وفي الشخصيات الكبرى عندما يريد المخرج أو الممثل أن يقدم وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر قدّمها مخرج آخر في “هاملت” مثلاً، وهذا يحتاج إلى وقت وتدريب أكثر لإنضاج الشخصية التي يتم الاشتغال عليها على نار هادئة، أما في السينما وفي التلفزيون فإن الممثل المحترف برأي مسعود كالشاعر المحترف لا يحتاج إلى قواميس فن الأداء في تحضير الشخصية، حيث باتت أدواته ملكه ويصبح سيد نفسه كالشاعر الذي يرتجل الشعر: “هناك شيطان للشعر وهناك شيطان للأداء، كلّ يستحضره بطريقته، الشاعر والممثل”.
وفي ختام حديث مسعود مع طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية والذي أداره أ.سعد القاسم مؤخراً في المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن ملتقى الإبداع الشهري الذي اعتادت إدارة المعهد عقده أكد للطلاب أن الفرص في عهده كطالب لم تكن كثيرة لقلة الأعمال التي كانت تُنجز وهو مدرك أنهم يدرسون في ظروف صعبة، وعلى الرغم من ذلك يجب عدم الاستسلام لأن فيهم من سيكون له شأن كبير في المستقبل.