أرادوا التوسّع شرقاً فعززوا الخوف في المركز
طلال ياسر الزعبي
بات من الواضح لجميع المراقبين أن جميع المزاعم والأكاذيب الغربية حول “غزو روسي وشيك” لأوكرانيا، كانت الغاية منها إيجاد مسوّغ لتمدّد حلف شمال الأطلسي “ناتو” شرقاً باتجاه الحدود الروسية، وهو الأمر الذي ما انفكت موسكو تحذّر منه وتطلب ضمانات أمنية بشأنه.
وإذا سلّمنا أن الواقع الحالي بعد قيام دول رئيسة في الحلف بنشر قوات قتالية لها بالقرب من أوكرانيا، ونشر منظومات صاروخية وكميات ضخمة من العتاد العسكري للحلف في أوكرانيا أو بالقرب منها قد تحقّق بالفعل، فإن هذا الأمر بحدّ ذاته استدعى تحرّكات عسكرية روسية مقابلة لهذه التحركات، من حيث تعزيز وجودها العسكري على حدودها الغربية، فضلاً عن نشر منظومات صاروخية لها هناك، وإجراء مناورات عسكرية مع بيلاروس تحت عنوان “حزم الاتحاد 2022″، وغير ذلك من الإجراءات التي اتخذتها موسكو للحفاظ على أمنها.
هذا الأمر ولّد خوفاً وهلعاً لدى بعض الشركاء الأوروبيين في الحلف ذاته من أن زيادة عديد القوات من الجانبين قد تؤدّي في أيّ لحظة إلى اندلاع صراع عسكري في أوكرانيا قد يمتدّ لتشمل تداعياته دولاً أوروبية أعضاء في الحلف، وبالتالي سارعت بعض الدول الأوروبية ومنها ألمانيا وفرنسا إلى احتواء المشهد قبل أن يتحوّل إلى صراع عسكري بالفعل، حيث بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى زيارة موسكو ولقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين في محاولة لإحياء اتفاق مينسك الذي أدّى التحريض الأمريكي للجانب الأوكراني إلى القفز فوقه، وصرّح ماكرون من كييف بأنه لا بديل عن اتفاق مينسك، في أول إشارة أوروبية إلى وجود خلاف أوروبي أمريكي حول العلاقة مع موسكو.
هذا الأمر انبرت الإدارة الأمريكية عبر أذرعها إلى نفيه، حيث صرّحت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي بأن واشنطن لا تعتقد أن أوروبا تحاول إجراء مفاوضات منفصلة مع موسكو حول أوكرانيا، مضيفة: إن الولايات المتحدة تعتبر “اللاعب الأساسي” في هذا الصدد، وإن هناك “مفاوضات مختلفة تجري بشكل متزامن”.
ولكن هذا الحديث يشير من طرف آخر إلى أن واشنطن تصدّرت موضوع الحوار مع روسيا بدلاً من الأوروبيين وذهبت به مذهباً تصعيدياً، الأمر الذي أثار حفيظة الأوروبيين المعنيين أولاً بأيّ صراع يحدث في قارتهم، وبالتالي كان لا بد من وجود أصوات أوروبية مناوئة للنهج التصعيدي الذي تتخذه واشنطن في مواجهة موسكو، حيث أدرك الأوروبيون مؤخراً أن جميع الأضرار الاقتصادية والأمنية الناتجة عن التصعيد في محيطهم سيتحملون هم القسط الأكبر منها، وأن واشنطن ضمنياً ربما تستخدمهم رأس حربة في صراعها مع كل من روسيا والصين تحت ذريعة اشتراك الجميع في حلف واحد هو “ناتو” الذي يُفترض أن تُتخذ قراراته بصورة جماعية، وليس أن تستقل واشنطن باتخاذها بمعزل عن أصحاب الأرض.
وبالمحصلة، فإن الأوروبيين سايروا واشنطن في البداية على اعتبار أن الأمر يقتصر فقط على تمدّد حلف شمال الأطلسي شرقاً، ولكنهم عندما شاهدوا التصاعد الخطير للمشهد وآثاره الاقتصادية والأمنية عليهم بدؤوا يدركون بالفعل أنه لابدّ من معالجة مخاوفهم الأمنية بالحوار مع موسكو مباشرة دون اللجوء إلى واشنطن التي لا تهتم كثيراً بالأمن الأوروبي، بل تستخدم أوروبا مطيّة لصراعها المستمر مع كل من روسيا والصين.
فهل يفلح العقلاء الأوروبيون في نزع فتيل أزمة ساهم صمتهم عن أكاذيب حليفهم الأطلسي في صناعتها، قبل أن تتحوّل هذه الأزمة بفعل التحشيد العسكري الذي جلبته إلى وبال على القارة بأسرها، وعندها لن ينفعهم كثيراً انقيادهم وراء واشنطن؟