النادران
حسن حميد
أعترفُ أنني، وكلما دهمتني هذه الذكريات، اتّقد قلبي بالألم العميم، لأنها ذكريات فيها من النبل والعمل والجمال الكثير، ولكن خواتيمها كانت وقيدة حزن وأكثر؛ فالآن يدهمني رحيلان، فيهما من الغموض ما يوجع الروح ويدميها، وفيهما من الأسى ما يذيب النفس حسرة، وهما رحيلان متقاربان في الزمن، لكأن أحدهما كان ينادي الآخر ويصرخ عليه مستعجلاً إياه كي يلحق به، أو لكأنهما تواعدا على الرحيل معاً في وقتٍ بَرود ثَلوج: الرحيل الأول هو رحيل معين بسيسو شاعر فلسطين العزيزة، صاحب السيرة المفردة في جمالها وحضورها وغناها الوطني الصريح، فقد رحل ليلاً، وحيداً، في مدينة الضباب لندن 23 كانون الثاني 1984، وعمره 56 سنة التي جاء إليها مع رفاقه (محمود درويش، سميح القاسم، يحيى يخلف) لينشد شعره في بلاد البرد والضباب ليقول جملة عزيزة تبناها شعره طوال حياته: فلسطين بلادي.
رحل وحيداً قبل أن يشارك في أمسية الشعر الفلسطيني بقصيدة عنوانها (سفر)، وما من أحد يعرف سرَّ ذلك الرحيل، سوى أوراقه التي توازعت سطح الطاولة الأبنوسية الصغيرة، وكوب الماء الذي لم يتجرّع كلّ ما فيه، وفنجان قهوته الكبير، وقلم الحبر رفيق رحلته، والقصيدة التي سينشدها في المساء القادم، ولا أنفاس حوله سوى أنفاس شجيرة البرتقال الصغيرة التي كانت رفيقة سفره الدائمة.
لقد تفقده الرفاق، وهاتفوه، وصعدوا إليه فوق أدراج من قلق وهجس وأسئلة، فوجدوه ذلك الطفل الجميل الذي يغطّ في نومة ملائكية، وقد تناثر شعر رأسه الطويل خصلاً فوق وجهه، ليخفى ما فعلته يد الموت من آثار في اللحظات الأخيرة، فبكوه، هم، وأوراقه، وقلم حبره، وكوب مائه، والطاولة الأبنوسية الصغيرة، وقصيدته الأخيرة، وشجيرة البرتقال التي انحنت بخشوع. رحيل سرانيّ هادئ، ورحيل مغاير لعصف شعره، وعصف حياته، متوّج بابتسامة ناحلة تكاد، لولا الحياء، تضيء لقد رحل صاحب القصيد:
الصمت موت قلها ومت، فأنت إن نطقت متّ، وأنت إن سكتّ متّ.. قلها ومت.
والرحيل الثاني الجارح والصّاعق الذي يدهمني، هو رحيل راشد حسين، جميل الشعر الذي لفت انتباه الدنيا كلّها إلى ما يقوله شعراء الوطن الفلسطيني المحتل جهراً من أن الشعر يزهر فيه مثلما تزهر البيارات، وأن للشمس بهرتها الذهبية التي لا تدانيها بهرةٌ لنهار آخر، وأن العزّة فيه إن ثُلمت فعلى الدنيا السلام.
رحل راشد حسين غريباً وحيداً أيضاً في مدينة نيويورك (2 شباط 1977 وعمره 40 سنة)، لقد افتعلوا حريقاً في غرفته، وهو ينام هادئاً كي يستعيد صورة (مصمص) قريته في الجليل، وكي يرى صورة البلاد الفلسطينية إن عمّها غيم، أو إن عصفت بها ريح، رحل طيّ حريق، التهم أوراقه، وحبره، وما تبقى من عشائه، ولم تنجُ من لهب النار سوى خريطة ملوّنة للبلاد الفلسطينية كانت معلقة فوق السرير لتحرس قوله، وخُطاه، وحلمه..
رحل راشد حسين، في برد شباط مثلما رحل معين بسيسو في برد كانون الثاني، وكلاهما في دارة الغربة (لعنة المنفى) التي صنعتها اليد العدوة الآثمة، بعد أن اجتمع الاثنان، في أعقاب عام 1967 في دمشق العزيزة، ليعملا في الصحافة المكتوبة والمذاعة، ثم ليفترقا بعيداً في عتمة المنافي التي بدّدها وأضاءها شعرهما البارق كالنّدى.
سرانية رحيلهما، تنادينا كي نمحو عتمتها، ونعرف الأيدي التي امتدت إلى صدريهما لتأخذ أعزّ ما لديهما من مكنون، لأنهما كانا نادرين في القول، والحلم، والسيرة، رحلا مثل النهارات، وها هما يعودان مثلاً النهارات أيضاً، كلما عبرنا حقولهما الشعرية، أو كلما عبرت هي.. بنا!.