حواكير الريف السوري تعيد صياغة جدارة العيش والإنتاج بموروث “العصامية والاعتمادية”
دمشق – علي بلال قاسم
فرضت تداعيات الحرب نفسها بقسوة على الحياة العامة السورية، ومع ذلك استطاعت أن تحرض المجتمعات المحلية على إعادة صياغة جدارة العيش بقوة البقاء، ومقاومة مخرز الأزمات، لتغدو تفاصيل المناشط والأعمال في المدن والأرياف أكثر من ديناميكية ومرنة لتصل إلى حدود القناعات غير الغريبة على الثقافة وأنماط التفكير من قبيل “الشغل مو عيب” أياً يكن نوعه كحالة موروثة في صلب المكوّن السوري الذي لطالما اعتنق المهن مذهباً تسلّح به في السوق، وأعطاه جواز سفر يرغبه من يقتفي أثر الإنجاز النوعي والمختلف.
في يوميات الأزمات التي خبرها الأرشيف الجمعي لهذا البلد، تتلوّن الأعمال وتتحوّر النشاطات، وإذا كان للاستغلال والمتاجرة والتأزيم موضع “خنصر” تحت عنوان: “أمراء الحروب ومحدثو النعمة”، فإن لخيار العصامية فعلها الأقوى، وموطئ “كف وقدم” عند السواد الذي راح يحفر في صخر المعاناة في المدن التي تضج بالحياة، حيث لكل رزقه، حتى ولو وقف التاجر الحلبي أو الشامي على “بسطة”، بعدما كان من أرباب الصناعة والتجارة في زمن ما قبل النزيف في مدن الإنتاج، أما في ميدانيات الأرياف فهنا للحديث بعد ليس بالقالب الجاهز الذي يحتسبه البعض بأن المسألة هناك لا تعدو عن كونها مجالاً لنشاط زراعي بسيط في حقول وكروم وبساتين وحواكير من قياس “تمشاية الحال”، بل ثمة حقائق يدركها كل من قصد أو صادف مروره أو زيارته للعديد من القرى و”الضيع” على مساحات المحافظات، بما فيها تلك التي اجترعت مرارة الدمار والتخريب، وأصيبت الأعمال والمنشآت المتوسطة والصغيرة والمتناهية والبسيطة بمقتل.
قرى لفظت النسيان
تعددت صيغ العمل، وتنوعت التوجهات المتناغمة مع أوجه الحرب، ليتحول الكثير من البلدات التي لطالما كانت استهلاكية بحتة على حساب جاراتها المنتجات إلى منحى الاعتماد على النفس بعدما تقطعت سبل التواصل في أزمان “المناطق الساخنة وخارج السيطرة”، لتجد في تلك القرى المنسية وخلال سنوات معدودات متاجر جملة وليس مجرد مفرق، ومنشآت وأسواقاً فيها كل ما يحتاجه المجتمع الصغير على مستوى القرى الصغيرة والمزارع المحيطة بها في سوق عطشى لكل شيء ينتج، واليوم يتكرر مشهد “الاعتماد على النفس” في أيام الحصار والعقوبات، حيث الحاجة أشد لإنقاذ الاقتصاد بجرعات الإنتاج، وتأمين معيشة مناسبة ولو بحدود الكفاف على المستوى الفردي والأسري، فمع اشتداد صعوبات الحياة، وغلاء المعيشة، وفرض عقوبات اقتصادية أمريكية قاسية، لجأت معظم الأسر إلى إيجاد حلول للتغلب على صعوبات الحياة عبر إنشاء مشاريع صغيرة تساعدها على قضاء احتياجاتها على مدار الأيام.
ليست بالخيار السليم
عبر امتحان عقد الحرب، كان النجاح حليف الكثيرين ممن أيقنوا بأن تقليدية التعلّق بعباءة الدولة والتفيؤ بظلال التوظيف الجاهز ليست بالخيار السليم، بعدما اكتشفت الغالبية أن نجم الراتب وقدراته قد أفل، ولم يعد صاحب المعاش بقادر على إكمال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من كل شهر، في وقت يسجل لذوي الأعمال الحرة ومالكي الفعاليات وماسكي زمام المهن والأشغال اليدوية والحرفية والفكرية غير المؤطرة ضمن مؤسسة عامة وحتى خاصة، انتعاشهم النسبي بالقياس للآخر الموظف، وهنا لا يمكن إغفال لجوء الكثيرين ممن بلغوا سقف الراتب، أو أحسوا بأن ثمة خبرات وإمكانيات تراكمية قد امتلكوها، إلى خيار التقاعد طمعاً بالعمل الخاص “على حسابهم”، أو بالشراكات مع المقتدرين حتى ولو كانوا يعملون في مؤسسات القطاع الخاص.
وزر “الرعاية الأبوية”
اليوم يمكن القول إن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تشكّل النسبة الأكبر من المشاريع في مختلف القطاعات، وبالتالي فإن كل إجراء داعم أو تحفيزي أو تسهيلي تتخذه أية وزارة أو جهة حكومية في أي من القطاعات، ينعكس على تنمية هذا القطاع الاقتصادي المهم، وهذا ما اشتغل عليه عبر سنوات للوصول إلى قناعات وأنماط تريح الدولة وترفع عن كاهلها وزر “الرعاية الأبوية” بشكلها “الخشبي”، في وقت بدأت الخطوات الأولى للتخلص من ثقل الدعم الاجتماعي وفاتورته المتعاظمة، وفي هذا الدرك بالذات كانت اليقظة الحكومية حتى في زخم وحدية التفاعل العام، وجدلية موضوع سحب الدعم- حديث الساعة- لإبقاء المشاريع الصغيرة والمتوسطة والمنشآت البسيطة تحت مظلة الدعم، كما جرت العادة لإبقاء وتقوية هذا الرصيد الذهبي من “الصناع” الذين كانوا حجر أساس في صناعة اقتصادات كبرى، وصياغة أخرى ناشئة.
“ضيع” منتجة
هنا يحسب لهيئة تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة إنجاز مشروع التعداد الشامل والتفصيلي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الذي يهدف إلى توفير إطار محدث ومتكامل للمنشآت الاقتصادية والاجتماعية لاستخدامه في مختلف المسوح الإحصائية الاقتصادية، وحصر القطاع غير المنظم، والوقوف على وضعه الراهن، مع إجراء دراسات معمّقة حول حجم القوة العاملة تبعاً للأنشطة الاقتصادية في المحافظات، ويفيد نتاج تعداد المرحلتين الأولى في دمشق وريفها واللاذقية وطرطوس والسويداء، والثانية في حمص وحماة وحلب، بوجود أكثر من 7779 منشأة، كما تظهر إحصائيات الهيئة أنه تم تسجيل نحو 7608 مشاريع في معظم المحافظات، وكانت لطرطوس واللاذقية النسبة الأكبر بنحو 26 في المئة لكل منهما.
يبلغ عدد المشاريع الصغيرة في طرطوس نحو 1999 مشروعاً، وفي اللاذقية نحو 1988، بينما حلّت حماة في المرتبة الثالثة بواقع 1653 مشروعاً، وحلب رابعاً بحوالي 1131 مشروعاً.
هذه الأرقام توثّق حقيقة ما أسلفنا به من تحول المجتمعات المحلية من سكنية بحتة “على مستوى الأرياف” إلى منتجة وتضج بالعمل والحراك الفاعل، بشهادة تنانير ومخابز ومنشآت الخدمة على محاور الاوتسترادات والطرق العامة، وانتشار المنشآت في مناطق كانت جرداء خلال سنوات ما قبل الحرب، وفي نهوض قرية تضم عشرات المداجن في منطقة على تخوم مصياف دلالة على الصيرورة الجديدة والانبعاث المأمول، رغم كل ما يواجهه أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة من فرص ضئيلة لإطلاقها بسبب تحديات التمويل.
مواجع الأعمال
وفي قراءة مؤسساتية لحال مواجع هذه الأعمال، يعتبر إيهاب اسمندر مدير عام هيئة تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة أن المشكلات التي تواجه المشاريع تتنوع بين عدة جوانب كالمالية والإدارية والمحاسبية، إضافة إلى المشكلات التسويقية، ويعاني 72 في المئة من أصحاب المشاريع من مشكلات في التسويق التي تتمثّل بقلة الأماكن المخصصة للعرض، وعدم القدرة على مواكبة تقلبات الطلب الشديد، والافتقار إلى المواصفات والتصميمات، وغياب رقابة الجودة، وانخفاض القدرة التفاوضية على الأسعار، إضافة إلى مشكلات إنتاجية تتعلق بالحصول على المواد الأولية، واستقطاب اليد العاملة المدربة.
ويلفت محمد فياض مدير صناعة ريف دمشق إلى أن الجهات المعنية تعمل على إيجاد بيئة أعمال تمكينية لهذه المشاريع، وتطوير سياسات دعمها، وتعزيز تنافسيتها عبر إصدار عدد من التشريعات الداعمة، ومنها قانون الاستثمار الجديد الذي يتضمن إنشاء مصارف للتمويل الأصغر، إضافة إلى خطة التوسع بإقامة المدن والمناطق الصناعية والحرفية، علماً أن تقديرات مديرية ريف دمشق تفيد بأن العاصمة والمناطق المحيطة بها شهدت نمواً في عدد المنشآت الصناعية والحرفية المرخصة منذ بداية 2021.