من دراما “التهويل” إلى طرفة “الحمض النووي”
أحمد حسن
ربما ليس أفصح من بعض “الهزل” المرافق للأزمة الأوكرانية لتأكيد حقيقة تصبح جلية يوماً إثر آخر، ويمكن تلخيصها بعبارة واحدة: “ثمة أنموذج دولي ينهار ويزول”، وليس للمواجهة الدائرة حول أوكرانيا – في مآلاتها النهائية – سوى أن تكشف عنه، وبكلمة أخرى “تغيير الوضع القائم منذ نهاية الحرب الباردة وتكريس حقائق جديدة”.
“هزل” ماكرون الرافض للخضوع لفحص فيروس كورونا في موسكو قبيل لقائه الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، “خشية أن يسرق الكرملين معطيات حمضه النووي!!”، هو دليل بارز على ذلك. الرجل أراده حلقة في حرب التضليل التي يمارسها الغرب ضد روسيا، لكنه في المعنى الأبعد يشكل صورة عن الدرك الذي وصل إليه الاستعمار القديم في التعامل مع مشاكل العالم الذي تفّلت من بين يديه من فترة طويلة.
ذروة “الهزل” كانت في تحديد الرئيس الأمريكي جو بايدن ليوم الأربعاء (16 شباط) كموعد محدد للغزو الروسي المزعوم لأوكرانيا، ورغم أنه جرى التراجع عنه، إلا أنه يقدم دليلاً بارزاً على الدرك الذي وصل إليه الاستعمار الجديد في التعامل مع مشاكل العالم الذي يكاد يفلت من بين يديه.
وبالطبع لم يترك الإعلام “الحرّ” ميدان “السباق” الهزلي هذا، وكما هو متوقع ذهب “بعضه” أبعد في “الجري”، فقبل عشرة أيام تقريباً، تحدثت “بلومبرغ” عن الغزو الذي حدث بالفعل، ونشرت عنوان “روسيا تغزو أوكرانيا”، ثم .. اعتذرت وانتهى الأمر.
لكن، ولأنه “هزل” دول كبرى، فهذا يعني أنه سيقود حكماً إلى جدّ “مقلق”، وسيكون له ضحايا من أرض الواقع، وهذا ما استشعره، مؤخراً، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فطالب واشنطن بدليل قاطع على هجوم مخطط له، لأن التحذيرات من غزو روسي وشيك “تثير الهلع ولا تساعدنا”، للتذكير، الرئيس ذاته رفض سابقاً عرضاً روسيا لمقابلة بوتين في موسكو وحل الخلافات، لأنه “لا يمكنه أن يتوجّه خلال الحرب إلى عاصمة الدولة المعتدية”!! رهانه حينها على الغرب كان أكبر من اليوم، بيد أن رئيس الأركان الأوكراني الذي رحب، استفزازاً، بالقوات الروسية بالقول إنها قادمة إلى الجحيم، لم يفهم اللعبة، أو أنه منخرط فيها، فالجحيم ينتظر بلاده أولاً.
وتلك هي المفارقة، ففي الألعاب الدولية لا أحد يهتم بأدوات اللعبة، والهدف هنا – حتى مع استخدام “الهزل” – كبير جداً، أوكرانيا، بشعبها ورئيسها وقضيتها، جزء من مخطط محاولة واشنطن لتطويق العدو الجيوبوليتيكي – روسيا – بحزام من دول الناتو الجديدة لمنعها “من التمدد من قلب أوراسيا الى أطراف القارة الأوراسية الكبرى”، وبالتالي محاصرتها وخنقها في حدودها ومشاكلها. تاريخياً روسيا تنهار في الداخل حين تخسر نفوذها في الخارج.
ولأن لكل حرب رسائلها المعبرة، فإن رسالة الطاولة الطويلة التي اختارها بوتين للقاء مع ماكرون، ربما كانت تذكيراً رمزياً لأوروبا، وإن بصورة غير مباشرة، بابتعادها عن أمنها الأوروبي الحقيقي وانجرافها خلف رغبات الأمريكي، متجاهلة أن الدبابات إذا تحركت في وسط أوروبا عبر البوّابة الأوكرانيّة فسيكون ميدانها الأكبر أوروبا لا أمريكا، وبالتالي الدمار، والثمن اللاحق له، أوروبياً لا أمريكياً.
خلاصة القول، بين دراما “التهويل” وطرفة “الحمض النووي”، يريد الغرب أن يقول لروسيا من حقنا أن “نلعب” في جوارك كما نشاء، وأن نحاصرك ضمن حدودك، ومن واجبك أن تصمتي وترضخي لشروطنا، وإلا فإنك مسؤولة عن دمار العالم ومآسيه.. لكن العالم يتغير فـ “ثمة أنموذج دولي ينهار ويزول”.