القمم الأمريكية- الروسية بين الشد والجذب والتنافس والصراع والتفاهم والتوافق
البعث الأسبوعية- محمد نادر العمري
كان واضحاً أن وصول الرئيس جو بايدن للحكم بما يمثله من أيديولوجية ليبرالية مدافعة ومتبنية للوحشية الرأسمالية وهيمنتها، سيرخي بظلاله على طبيعة العلاقات الأمريكية الروسية، بعدما شهدت هذه العلاقات نوعاً من التقارب أثناء ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي صب توجهاته لاحتواء التطور المتنامي لنفوذ الجمهورية الصينية على الصعيد الاقتصاد، حتى أن منافسي ترامب من الجمهوريين اتهموه بالاستعانة بالجانب الروسي للفوز في الانتخابات، وأنه قدم تنازلات للروس حتى وصل الأمر لحد تنامي النفوذ الروسي على حساب النفوذ الأمريكي.
تاريخياً، وبخاصة منذ مرحلة قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية وما تلاها من مسار الحرب الباردة وصولاً للانهيار الجيوستراتيجي للاتحاد السوفييتي، تميزت العلاقات بين الجانبين بالشد والجذب والتنافس والصراع والتفاهم والتوافق في مراحل مختلفة وحسب طبيعة الملفات، حيث كان التنافس يسود في سباق التسلح وجذب الدول ضمن المعسكرين السائدين في تلك الآونة، وكانت تتفق على توافقات هشة لمنع حصول صدام مباشر بين الجانبين نظراً للخسائر الجمة التي ستترتب عن ذلك بما يمتلكه الطرفين المتصارعين من قوة تدميرية تهدد النظام الدولي.
وضمن هذه التراتبية من مشهد التنافس والصراع والتوافق، شكلت لقاءات القمة حتى في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أو ما عرف بهيمنة القطب الأوحد، حاجة للجانبين، ولكنها اتسمت منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين نوعاً من الندية، حيث كان الخطاب الرئاسي والدبلوماسي الروسي منذ عام 2004 يتضمن مؤشرات نحو تغير النظام الدولي وطالبت بقرار أمريكي بهذا الواقع المتغير.
وبعد تولي الرئيس جو بايدن لإدارة البيت البيضاوي في واشنطن، حظيت أول قمة جمعته مع نظيره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران الماضي في مدينة جنيف السويسرية بأصداء ايجابية، إذ اتفق الطرفان حينها تأكيدهما بتبني صيغة من التفاهم بشأن مختلف القضايا المتنازع عليها والمختلف عليها سواء من حيث مسار العلاقات العالقة بين الجانبين ” سباق التسلح، المخزون الكيماوي، التدخل في الشؤون الداخلية وغيرها”، أو ضمن مسار التحالفات العدائية المتضمنة نشر الدرع الصاروخي أو توسيع دور الناتو …إلخ، أو فيما يتعلق بساحات الصراع التي تمثل أحد أوجه التجاذب المباشرة وغير المباشرة بين الطرفين.
حتى أن بعيد لقائه ببوتين، شدد بايدن على أن “نبرة اللقاء الأول برمته، كانت جيدة وإيجابية”، مشيراً إلى أن “آخر شيء يريده بوتين هو حرب باردة جديدة”، فيما اعتبر بوتين أن المحادثات كانت “بناءة”. وهو ما أوحى بأن اللقاء مثل توافق بين الجانبين يريح دول النظام الدولي بعد تداعيات جائحة كورونا وحالة العبثية التي تبناها الرئيس ترامب، أو إن هذه التصريحات لا تمثل مواقف متبنية من قبل الإدارة الجديدة، بل مجرد عبارات دبلوماسية منمقة تخفي في باطنها العديد من القضايا الخلافية القابلة للانفجار، ولاسيما أن قمة الزعماء وفق العرف الدولي تمثل حالة من ثلاث، إما توافق على صيغ من المعاهدات المشتركة بناءً على عمل ومتابعة لجان مختصة، أو واقع يحاول أن يظهر نوع من التفاهم في ظل هامش من الخلافات يدفع للتوافق على دفع مسارات تقنية بين الجانبين لحل هذه الخلافات، أو محاولة لتصحيح العلاقات بين الجانبين. وهو ما دفع الطرفين في قمة جنيف للتأكيد ” أنهما أثبتتا حتى في أوقات التوتر، قادران على إحراز تقدم في تنفيذ الأهداف المشتركة وضمان القدرة على التنبؤ في المجال الإستراتيجي، والحد من مخاطر النزاعات المسلحة، وخطر الحرب النووية”.
صورة العلاقات المختلطة
غير أن التطورات التي أحدثتها قمة جنيف في العلاقات بين موسكو وواشنطن لم تذكر وهي هامشية، وضمن هذا الإطار أوضحت صحيفة “واشنطن بوست” في مقال نشر في تشرين الأول من العام الماضي، أن العلاقة الروسية الأميركية بشكل عام لا تزال “صورة مختلطة”، في ظل خلافات وشكوك حادة حول العديد من القضايا المتصارع والمختلف عليها. حتى إن مراكز الدراسات الأمريكية بعد القمة وصفت التقدم الذي يحرزه البلدان في بعض أجزاء الأجندة الأمنية التي حددها الرئيسان في قمتهما في جنيف، بأنها لم تصل حتى ” ذوبان بطيء للجليد“، بين موسكو وواشنطن.
ومما يؤكد غياب ولو بطئ لهذا الذوبان هو المنحى المغاير التي شهدتها القمة التي عقدها الطرفان عبر الاتصال المرئي بداية كانون الأول من العام 2021، حيث بدت نتائج هذه القمة وما جرى من محادثات لم تتجاوز ساعتين كأنها “تكويم للجليد” بدلاً من ذوبانه، حيث احتلت الأزمة الأوكرانية قمة هذا التكويم الذي أخذت في التدحرج حتى أن زعيمي القطبين الدوليين بايدن وبوتين، وصفا من قبل متابعين مختصين في العلاقات الدولية بأنهما انتهجا لهجة معاكسة عن اللهجة الدبلوماسية التي طغت على محادثات جنيف، حيث غلب على تصريحاتهما طابع التحذير والتهديد واستعراض القوة.
فمن جانبه أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن بعد انتهاء الاتصال المرئي، أنه ستكون هناك عواقب وصفها بالوخيمة والمزيد من العقوبات الاقتصادية لم يشهدها العالم قبل ذلك إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا. فضلاً عن ذلك لوح بايدن بالقوة العسكرية حينما أشار إلى أنه إضافة إلى فرض عقوبات اقتصاديه، فإن “هجوماً روسياً على أوكرانيا سيدفع نحو تعزيز الوجود العسكري في مناطق دول حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا”.
هذا التصعيد الأمريكي قابله الزعيم بوتين، بتأكيده على نهج كييف المدمر المحرك من الأطلسي، والذي “يهدف إلى التفكيك الكامل لاتفاقيات مينسك، والاتفاقات التي تم التوصل إليها، وفق صيغة نورماندي”، معرباً عن قلقه الشديد بشأن الإجراءات الاستفزازية لـ كييف ضد دونباس، وهو ما ترفضه موسكو في ظل تحركات ومناورات مريبة من قبل بعض دول الحلف الذي انتهج سلوكاً عدائياً ابتداءً بطرد الممثلين الدبلوماسيون الروس لديه وصولاً لإغداق السلاح لكييف، وتهديد الأمن القومي الروسي، مروراً بتجاهل وكسر الخطوط الحمراء المتعامل بها عرفياً من حيث توسع الحلف.
هذا التأزم في العلاقات، لم يصل لدرجة القطيعة، بل لعودة التواصل الضروري، حيث لم يستغرق الوقت كثيراً حتى عاد الرئيسان للاجتماع في اتصال هاتفي دام نحو 50 دقيقة، في الـيوم الأخير من العام الماضي ، من أجل التباحث في تفاصيل الموضوع ذاته أي “التوتر العسكري المتنامي حول أوكرانيا”، غير أن الطرفين لم يقدما أي تنازلات بل انتهجا خلال قمتهم الثالثة ، السلوك والموقف واللهجة نفسها: من “التحذير والتهديد والاستعراض المستمر للقوة”.
حتى أن الرئيس بوتين في مؤشر لرفضه العربدة الأمريكية الدعائية والاستفزازية، حذّر نظيره الأميركي من أنه “في حال قرر الغرب فرض عقوبات على روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا، فإن ذلك قد يؤدي إلى قطع العلاقات مع أميركا”. وهدد الجانب الروسي بحق “روسيا بالتصرف مثلما كانت ستتصرف واشنطن في حال ضرورة ضمان مصالحها الأمنية”. وهو ما دفع بايدن لرفع سقف تهديداته بأن “بلاده مع حلفائها وشركائها سترد بشكل حاسم في حال قيام روسيا بغزو إضافي لأوكرانيا”.
ارتفاع حدة الأزمة
بعد القمة الثالثة ارتفعت حدة الأزمة بين واشنطن وموسكو، لتتصاعد بشكل متسارع، إلى أن انعكس ذلك بمزيد من التحشيد العسكري، وبمزيد من التعقيد في الرد الأميركي حول مقترحات الضمانات الأمنية التي قدمتها روسيا.
وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقول بأن الحملة الدعائية للولايات المتحدة وحلفائها حول “العدوان الروسي” على أوكرانيا تسعى إلى تحقيق أهداف استفزازية، مضيفاً إلى أن رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مسودة المعاهدة الروسية الأميركية والاتفاق مع الناتو، بشأن الضمانات الأمنية التي قدمتها موسكو “يتجاهل البنود الرئيسية بالنسبة لروسيا”.
بينما شكل التواصل الرابع والذي جرى يوم السبت 12 شباط من العام الحالي، حالة جمود سياسي ومحاولة جس النبض للطرفين، وما يؤكد ذلك عدم وجود مخارج للأزمة الأوكرانية مما يحتم توتر العلاقة التي هي في مرحلة تصدع شبه كاملة دون أن يعني ذلك انفلات المشهد للمواجهة المباشرة.