المستشار الألماني ينجح في روسيا
ريا خوري
ما زال العالم يشهد حراكاً سياسياً وعسكرياً بشكلٍ مكثف حول الأزمة الأوكرانية التي تتدحرج وسط حالة التوتر الكبيرة بين جمهورية روسيا الاتحادية ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو). وتحمل روسيا دول (الناتو) مسؤولية تأجيج وتفاقم الأزمة لعدم إعطائها الضمانات الكافية بعدم توسع دول الناتو شرقاً، في حين تؤكد دول الحلف أن مطالب روسيا تعتبر تعجيزية بالنسبة لهم.
هذه الأزمة المتفاقمة تأتي غداة مستويين من التحولات الكبيرة في العلاقة بينهما خلال الفترة الماضية التي اتسمت بالسخونة، فقد ارتفع معدَّل هذا التوتر بين الطرفين منذ أوائل العام الجاري بسبب ما تقوم به دول الناتو من دفع أوكرانيا إلى إمكانية انضمامها إلى الحلف، وهو أمر ترفضه روسيا جملةً وتفصيلاً، وتعتبره خطاً أحمر. وعلى مدى الأيام الماضية، وحفلت الصحف والمجلات الغربية بعشرات المقالات والتقارير التي تنذر بحرب باردة جديدة، وبخطر جديد متصاعد، قد يصل حتى إلى صدام عسكري مباشر تكون نتائجه مدمرة على الجميع.
وبعد مفاوضات شاقة وصعبة دامت لأكثر من ثلاث ساعات في الكرملين، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز ليؤكدا على إزالة المخاوف التي أثارتها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية بشأن اندلاع حرب (في غضون ساعات) بين روسيا وأوكرانيا، إذ أكد الرئيس بوتين أن روسيا لا ترغب في نشوب الحرب ولا تريدها، إنما ترغب بإطلاق مفاوضات للتوصل إلى اتفاق بشأن الأمن المشترك، في حين أشار المستشار الألماني من جهته إلى وجود أفق للتعاون البنّاء والهام مع روسيا وإمكانية إجراء حوار وإنهاء الأزمة الراهنة ووضع حد للبروبوغندا الأمريكية .
هذا يعني أن الحوار ما زال قائماً وأن الطريق ليس مسدوداً كما كان الإعلام الغربي والأمريكي ينشره، والجهود الدبلوماسية بين الطرفين لم تتوقف، وكان بدأها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وها هو المستشار الألماني أولاف شولتز يستكملها.
لعل مبادرة القيادة الروسية قبيل وصول المستشار الألماني شولتز بالبدء في سحب القوات الروسية من الحدود الأوكرانية والعودة إلى قواعدها السابقة هي مؤشر هام وواضح على عدم نية روسيا تصعيد الموقف، وسعيها لكسب أوروبا إلى جانبها وليس ضدها كما ترغب الولايات المتحدة الأمريكية، أو هي هدية من القيادة الروسية للمستشار الألماني كي يتمكن من تثبيت قيادته الألمانية ومكانته الأوروبية الكبيرة خلفاً للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي حرص على استشارتها كثيراً قبيل مغادرته إلى العاصمة الروسية موسكو، بسبب خبرتها الطويلة في التعامل مع الرئيس الروسي، ونجاح سياستها تجاه روسيا والأكثر انفتاحاً على موسكو من بقية الدول الغربية. ثم إن المستشار شولتز يدرك أهمية روسيا بالنسبة لألمانيا في مجال تزويدها بالطاقة من خلال خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يشكل شريان حياة لألمانيا اقتصادياً. لذلك فإبقاء الحوار مع روسيا أمر مهم بالنسبة لألمانيا ولأوروبا وحتى للولايات المتحدة الأمريكية ، ما دام هناك انفتاح كبير على التوصل إلى حلول للقضايا الخلافية العالقة .
المستشار الألماني أولاف شولتز أكد من جهته أن جمهورية ألمانيا الاتحادية عملت وتعمل مع (الناتو) لإجراء حوار بشأن الأمن الجماعي الذي يعتبر قضية في غاية الأهمية بالنسبة لروسيا، وكانت السبب الرئيسي في الأزمة الحالية التي باتت على صفيح ساخن ، ذلك أن القيادة الروسية وعلى رأسها الرئيس بوتين ترى بأن الأمن الأوروبي من خلال التذرع بانضمام دول في أوروبا الشرقية إلى الحلف والتوسع شرقاً باتجاه حدوده، ووضع أسلحة هجومية نوعية فيها، لا يجوز ولا يمكن القبول به طالما يتم وبتخطيط مسبق على حساب الأمن القومي الروسي.
لقد كان اللقاء الهام بين الرئيس الروسي بوتين والمستشار الألماني شولتز قد وضع أساساً متيناً لإعادة الثقة بين البلدين على غرار نهج المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ويبدو من خلال تصريحات بوتين وشولتز أنه تم نزع فتيل التوتر حتى الآن، بانتظار نضج فكرة الحوار بشأن الأمن الجماعي، وهو ما تقوم به ألمانيا وفرنسا اعتماداً على مواقفهما الإيجابية تجاه جمهورية روسيا الاتحادية، وسعيهما الجدّي لتجنيب أوروبا ويلات حرب طاحنة قد تكون كارثية ومدمرة ، خصوصاً أنها هي من يكتوي بنارها وليس الولايات المتحدة الأمريكية البعيدة.
المتابع لمجريات نتائج المفاوضات بين بوتين وشولتز يجد أن العلاقات الروسية – الألمانية علاقات جيدة ، حيث بدد بوتين كل المخاوف الألمانية والأوروبية بشأن إمدادات الطاقة، مؤكداً أن روسيا توفر أكثر من ثلث احتياجات ألمانيا منها، وإيلاء أهمية كبيرة وخاصة لمشروع خط أنابيب نقل الغاز المسال “نورد ستريم 2” إلى أوروبا، واستعداد روسيا لمواصلة صادرات الغاز عبر أوكرانيا.