الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لحظات وارفة المتعة

سلوى عباس

في زمن طغى فيه الصخب والضجيج، وأصبح لكلّ شخص مزاجه في الغناء يفرضه على الآخرين، فيطلق العنان لآلة التسجيل أن تصدح بأصوات لمطربين تصدع الرأس والروح، ما زالت جعبة ثنائي صوت الشرق عصام شريفي وسمر بلبل عامرة بالفن، إذ جمعهما فضاء اللحن والكلمة الشفافة والصادقة، فشكّلا بالصوت واللحن أجمل ثنائي فني ينبض بعبق الشرق وروحه، لتأتي أغنية “تعرف” غناء سمر بلبل وألحان د. عصام شريفي وكلمات د. هداية مدني من مصر وتوزيع المايسترو غابي عضيمة من لبنان، وشارك في تسجيلها عدد من الموسيقيين العرب في باريس، فشكّلوا توليفة عربية أضافت قيمة سامية تعيدنا إلى ذلك الزمن الجميل، زمن عمالقة الطرب الذين أثروا تراثنا الفني بما حملته أغنياتهم في مضمونها من قضايا الوطن والمواطن، وعبّرت عن بساطة الحياة والالتزام بالقيم والمبادئ التي تمثّل محور حياتنا، وتؤكد على تمسكنا بأصالتنا وهويتنا، هذه الأغنيات التي مازالت حاضرة في ذاكرتنا ووجداننا، تطربنا في أي لحظة نسمعها، وما يقدّمه الثنائي بلبل وشريفي يمثل إضافة لهذا التراث، فنعيش معهما لحظات وارفة المتعة.

في أحد حواراتنا سألت د. عصام عن السبب الذي أخذه للموسيقا، وهو الطبيب الجراح الذي تمثل مهنته فناً من نوع آخر، فأجابني: الفن لم يأخذني لأني ولدت في بيتٍ تشكّل الموسيقى جزءاً من طقوسه، فوالدي يمتلك إحدى أهم مكتبات الموسيقى العربية على امتداد الوطن العربي، وكان يقول لي بعد أن وعيت الحياة: ليس لديّ ثروة سوى المكتبة الموسيقية، والموسيقى التي استطعت أن أعلمكم إياها، فكنّا أنا وإخوتي امتداداً لوالدي، لذلك الموسيقى موجودة لديّ قبل الطب الذي جاء بحكم التسلسل العلمي، وأحببت مهنة الجراحة، فلو لم أكن جراحاً لكنت طبيباً فاشلاً.

تنظم عمل الثنائيين شريفي وبلبل معايير صارمة في تقديم رسالتهما الموسيقية لأي مجتمع يخاطبانه، عربياً أم غربياً، فمن وجهة نظرهما الثقافات متنوعة، والموسيقا هي الفن الشعبي الأول في العالم، تدخل لكل بيت، ويمكن لأي أحد أن يحضرها، وبالتالي مهمة توصيلها للناس أكبر لأنها أرقى أنواع الفنون، لكن المعيار الأهم الذي اعتمداه في فنهما هو الجدية والإحساس الذي يمكن نقله للمتلقي، لأن اللغة لا تقف عائقاً أمام الموسيقى، وقد استطاعا إيصال رسالتهما للجمهور الذي كان يحضر أمسياتهما وملامسة إحساسه الجميل وتذوقه للموسيقى الراقية وانسجامه مع الإحساس العالي للفنانة سمر التي تؤديه بصوتها الطربي.

أتت أغنية “تعرف” – كما صرّحت سمر بلبل – ثمرة تواصل بين الشاعر مدني والملحن شريفي لتقديم عمل غنائي يحمل كلمات معبّرة بطابع عاطفي ورشاقة موسيقية في تسلسل جملها مع اللحن ذي المقامات الشرقية والإيقاعات والمناخات المتعدّدة، لخلق صلة وصل ببن الأغنية العربية الكلاسيكية والأغنية الحديثة دون ابتذال. وأشار د. عصام شريفي إلى أن البداية الموسيقية للأغنية جاءت بعزف منفرد لآلة العود لإعادة ما لهذه الآلة الشرقية من دور أساسي في موسيقانا، ومن ثم انتقلنا للتوزيع الذي أضاف بعض الخلفيات الجميلة دون أن يكون مجرد إيقاعات صاخبة وجملاً طاغية على اللحن الأساسي، وانتهاء بالغناء حيث استخدمت سمر في الأغنية تقنيات صوتية متعدّدة كونها ممن أتقن فنون الغناء العربي.

إن اللون الموسيقي والغنائي الذي يقدمه الثنائيان شريفي وبلبل سيكون إرثاً للأبناء والأحفاد، وبذلك نطمئن أن التراث الفني باقٍ والأغاني القديمة لن تموت، خاصة وأن تراثنا يزخر بالكثير من الإبداعات الاستثنائية لفنانين سوريين أغنوا ذاكرتنا بإبداعاتهم الجميلة.