ثقافةصحيفة البعث

رحيل النحاتة العربية منى السعودي

رحلت مساء الأربعاء في بيروت النحاتة الأردنية منى السعودي عن 77عاماً بعد صراع مع المرض. عاشت السعودي حياتها في بيروت منذ نهاية الستينيات ناشطة ثقافية وعاشقة لفلسطين، وأثبتت وجودها كنحاتة وكاتبة ومزاولة لبعض المهام الثقافية، حيث عملت رئيسة لقسم الفنون في دائرة الإعلام والثقافة الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية أثناء تواجد قيادتها في بيروت؛ وتتميز أعمالها النحتية المنفذة على خامات الرخام والحجر الكلسي بالتجديد والاختزالية، مستمدة من أشعار أدونيس ومحمود درويش وامرئ القيس والفرنسي سان جون بيرس قصائدها البصرية التجسيدية. وتشتبك عوالم الفنانة بمتطلبات الحداثة والطليعية كما تتصف بوجدانها السياسي الذي لم يكن مباشراً أو تعبوياً دعائياً، بل ذهبت في استكشاف موهبتها الملتزمة بقضايا التحرر والدفاع عن الجمال والعدل متأثرة بالفنون الريادية وقيم النحت الخالدة.

أعمالها معروضة في عدد كبير من متاحف العالم، مثل المتحف الوطني للفنون الجميلة في الأردن، والمتحف البريطاني، ومتاحف ومعاهد أخرى في شيكاغو وديترويت.

ولدت الفنانة في عمان وظهرت موهبتها في النحت منذ طفولتها وقدمت أعمالها الأولى في سن العشرين والتحقت لدراسة الفن في مدرسة الفنون الجميلة في باريس في ستينات القرن الماضي، أقامت معارض في العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة كما أقامت أول معرض لرسوماتها في 1963 في مقهى الصحافة في بيروت، من أعمالها منحوتة “هندسة الروح” المنصوبة اليوم أمام معهد العالم العربي في باريس.

أصدرت كتابها “أربعون عاماً في النحت”، وضعت فيه أوراقها وقصائدها والكثير من صور منحوتاتها، وأبرز ما كُتب عنها ووصفت به أنها عملية وصارمة وتتحلى بطباع المادة التي يمر عليها أزميلها، فالأحجار عند منى السعودي كائنات تدخلها في محترفها كي يختبر فيها النظام قبل النطق، فهي تعيش في زاوية هادئة ببيروت، وداخل بيتها تتناثر منحوتاتها ورسومها، وفي الحديقة والممر وتحت سقيفة تضع أدوات نحتها وأحجاراً نصف مكتملة وأخرى مرّ عليها الزمن وهي في وقفتها تنتظر من ينطقها المعنى، ويبعث فيها ديمومة الفن..

لابد أن تكون لكل قطعة تشتغل عليها الفنانة قدر من المهابة، فهي تشّد على الثقل في أحجارها كي تلين، تدخل إلى فراغها لتصقله وتعرّضه إلى ضوء العري، ولكن العري لا يصرف النظر عن الجلال، فكائناتها تتوهج وتموج بشفافية انحناءاتها وتحتفي بكبرياء اللحظة التي تجابه بها العين، ومنى السعودي ترى أنها تملك القوة الروحية والجسدية التي تجعلها تصل بالمجاهدة إلى غايتها في النحت وهو خيارها وطريقة في الحياة وتعترف أن النحت عمل شاق، ولكنه يحوّل المادة إلى طاقة، فهو تمرّكزٌ وتأمل وبحث، ولكي تكون نحاتاً ينبغي أن يكون لديك الإيمان الذي يجعلك تهب نفسك صافياً لهذا العمل فالفن يتطلب العزلة والتخلي والسفر إلى الداخل والمنحوتة تلد الأخرى، وعناصر اللغة التكوينية تتكرر وتتغير وتتوالد وتتوالى.

كأن النحت تجسيد للسر والغموض

كأنه جسد للشعر والروح

وهو سفر في اللامرئي..”

رحلت السيدة الخلاقة ذات الشعر الأجعد والملامح القاسية وبقيت أعمالها خالدة وشاهدا على أن على هذه الأرض ما يستحق العناء.

أكسم طلاع