خلل في سوق العمل السورية.. النساء هنّ المفضلات والأوفر حظاً ومختصون يعللون الأسباب
من يراقب الصفحات والمواقع المتخصّصة بالإعلان عن الوظائف، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، يعتقد أن مجتمعنا تحوّل إلى مجتمع يغلب عليه الطابع الأنثوي، إذ من بين كل عشر وظائف مطروحة في تلك الصفحات نجد شاغراً يتيماً يحتاج إلى شاب للعمل لديه، وعلى الرغم من أن الجامعات والمعاهد السورية تخرّج سنوياً آلاف الشباب وتضخّهم إلى سوق العمل، إلّا أن هذه السوق باتت حكراً على الإناث لأسباب عديدة، منها سفر الشباب للعمل خارج البلاد أو لأن الشروط الموضوعة من قبل أصحاب العمل تناسب العنصر الأنثوي بشكل بحت، ولاسيّما أن فرصة استمرار الشباب بالعمل لسنوات طويلة عند ربّ العمل أقل من فرصة بقاء الإناث مع وجود التزامات الخدمة الإلزامية وغيرها عند الشباب.
ومع ازدياد هجرة الشباب إلى الخارج بدأ الخوف يتسلّل إلى قلوب السوريين من أن نتحول إلى دولة عجوز بعد أن فقدنا قسماً من شبابنا في الحرب، في حين بدأ القسم الآخر بالسفر والبحث عن مورد رزق له وسط إغلاق أغلب المؤسّسات والمنشآت أبوابها في وجوه الشباب، وبعد أن طغى عنصر الإناث على جميع المؤسسات والشركات وحتى المعامل، لدرجة بات من الصعب أن يجد الشباب عملاً لهم في هذه المنشآت.
التزام الإناث
ومن يراقب عدد الطلبات المقدمة إلى الوظائف الأخيرة التي أعلنت عنها وزارة التنمية الإدارية يجد تفوق الطابع الأنثوي على هذه الطلبات، خاصّة وأن الوظيفة الحكومية لم تعد تُلبي حاجة الشباب اليوم، ولم تعد تكفي مصروف أكثر من يومين في الشهر، ليكون الاتجاه إلى الخاص الذي هو أيضاً أغلق أبوابه في وجه فئة الذكور، الأمر الذي يستدعي وجود ضوابط لسوق العمل السورية التي بدأت تفرغ من شبابها شيئاً فشيئاً، إذ لم ينكر أغلب أصحاب العمل بحثهم عن الإناث للعمل في مؤسساتهم أو ورشاتهم لالتزام المرأة بالعمل أكثر من الرجل وعدم الاستغناء عن العمل بسرعة كما يفعل الشاب، ناهيك عن عدم رغبة الكثير من الشباب في العمل ضمن مجالات معيّنة خاصة التسويق، إضافة إلى أن الأجور التي تعطى للموظفات النساء لا يرضى بها الرجال، وعلى الرغم من أن ضعف إنتاجية المرأة مقارنة بالرجل إلّا أن طبيعتها الانسيابية تكون أكثر التزاماً وأكثر انضباطاً وإخلاصاً من الرجل العامل، لذا فعملها مرغوب أكثر من الرجال، في المقابل يجد البعض الآخر أن انخراط المرأة في سوق العمل خلال السنوات الأخيرة كان ضرورة حتمية لأغلب العائلات شريطة العمل في مجالات لا تتطلب مجهوداً عضلياً وجسدياً كأعمال البناء والكهرباء والتجارة، فخيار العمل الخدمي والإداري في القطاع العام هو الخيار الأفضل، خاصّة وأن الكثير من المشكلات والمعوقات تتأتى من عملها في القطاع الخاص، بدءاً من التوظيف مروراً بعقد العمل وانتهاء بالإجراءات المتبعة لحلّ المشكلات بين الطرفين والطرد التعسفي، عدا عن الضغوطات والتحرشات التي تعاني منها المرأة في أغلب مواقع العمل الخاص، لذا لابد من توفر وعي كامل لحقوق المرأة في العمل في القطاعين العام والخاص حرصاً وحفاظاً على كرامة المرأة من جهة ولتوفير فرص عمل لشباب هم أحق بالعمل في هذه القطاعات من النساء.
غياب الإستراتيجية
ويجمع أهل الخبرة على الخلخلة الكبيرة في سوق العمل السورية وعدم توازن كفتي ميزان العمل، تحت شمّاعة الأزمة ومفرزاتها التي على ما يبدو لن تنتهي في المستقبل القريب. هنا يؤكد أستاذ الاقتصاد الدكتور إسماعيل مهنا أن مشكلة البطالة ليست وليدة الأزمة، لكنّها أخذت منحى جديداً خلال السنوات الأخيرة ليتجه مؤشر البطالة نحو الشباب الذكور أكثر من الإناث، بعد أن كان العكس هو ما يحصل سابقاً، إذ لم يكن العمل عند المرأة مرغوباً كما في الوقت الراهن، بل كانت نسبة العاملات لا تتجاوز 25%، إلّا أن سنوات الحرب والضغوط المعيشية فرضت العمل على جميع الفئات وعلى جميع الأعمار، بمعنى لم يعد العنصر الذكوري يغلب على سوق العمل كالسابق، بل غلب الطابع الأنثوي عليه خلال العامين الأخيرين في ظل غياب إستراتيجية واضحة لتنظيم هذه السوق وتوزيع قوة العمل فيها وتحسين البيئة الاستثمارية، ولفت مهنا إلى ضرورة أن تصبّ الإجراءات الحكومية حالياً في خلق مواقع إنتاجية جديدة في القطاعين العام والخاص، خاصّة وأن قاعدة الإنتاج بدأت تتوسّع بعودة النشاط الاقتصادي للدوران من جديد، مع ضرورة رفع سقف الأجور في كلا القطاعين لجذب الفئة الشابة للعمل لديها بدلاً من استقطابها من قبل دول العالم، مطالباً العمل بشكل جاد على ربط مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل.
كفاية اقتصادية
في السياق نفسه لم يُنكر محمد كوسا “خبير إدارة عامة” سيطرة عنصر الإناث على أغلب الوظائف في القطاعين، مرجعاً السبب إلى التوزّع الديمغرافي في المجتمع السوري، فقبل الأزمة كان التوزع الديمغرافي يعادل 51% لمصلحة الإناث، أما بعد الحرب فقد ازداد عدد الإناث في مجتمعنا على حساب الذكور نتيجة أسباب كثيرة، لنصل إلى غلبة النساء في هيكلة الوظيفة خاصّة إذا كان العمل ذا طابع خدمي إداري، كذلك نجد غلبة الإناث في الأعمال الزراعية نتيجة إتقانها للعمل الزراعي وتأقلمها معه أكثر من الذكور.
وأكد كوسا أن معطيات الحرب “هجرة الشباب-الالتحاق بالجيش- الفقد في الحرب” كلها تركت أثرها الواضح في سوق العمل، إضافة إلى عدم رضا الكثير من الشباب اليوم بالعمل في الأعمال الخدمية والإدارية لضعف العائد المادي، ليتدنى عددهم في هذه الأعمال إلى 30%، في حين تجاوزت نسبة الإناث 65-70%، لافتاً إلى توجّه قسم من الذكور إلى الأعمال التجارية أو المهن التي تتطلّب جهداً عضلياً وجسدياً لا تمتلكه النساء، فيما بقيت فئة كبيرة عاطلة عن العمل.
وأرجع الخبير الإداري توجّه المرأة للعمل حالياً أكثر من السابق إلى عدم الكفاية الاقتصادية، وعدم قدرة الذكور في الأسرة “أب-زوج- ابن..” على سد حاجات الأسرة ما اضطر أغلب النساء لدخول ميدان العمل.
ولم يخفِ كوسا وجود آثار سلبية عديدة لغلبة العنصر النسائي على الوظائف، أهمها تدني إنتاجية المرأة في الكثير من القطاعات مقارنة بالرجل نظراً لاختلاف المقدرة الجسدية والظروف العائلية التي تحيط بالمرأة، ما ينعكس على جودة العمل، وصولاً إلى ضعف الإنتاجية، مؤكداً أن المجتمع القائم على الإناث في أغلب قطاعات العمل فيه هو مجتمع ضعيف وستنخفض فيه عملية التطوير والإبداع، الأمر الذي يستدعي حتماً البحث عن سبل تحقيق التوازن في وجود الذكر والأنثى في جميع القطاعات، داعياً إلى ضرورة الاهتمام من قبل الحكومة بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة لتشجيع ما بقي من شباب في بلدنا وإشراكهم في عملية البناء الاقتصادي وتقديم التسهيلات مع رفع الأجور لتجنّب هجرتهم خارج البلد.
في الختام.. لا بد من السعي لحلّ لهذا الخلل، وقد أشار المختصون إلى عدة أمور نجدها تستحق الاهتمام والأخذ بها، وخاصة لجهة إيجاد الإجراءات للحدّ من هجرة الشباب ودعم الأجور لتحقق العيش الكريم للأسرة.
ميس بركات