هذا الصخب.. ليس موسيقى!
حسن حميد
أعترفُ، وبالصّراحة التّامة، والوعي التّام، أن الحياة الثقافية الرّاهنة ما عادت تحتمل قشةً، أو هِزّةً، أو رمشةَ جفن، لأن كلَّ ما يدور حولنا، وكل ما نسمعه، وكلَّ ما نراه تقريباً، يحيلنا إلى شاطئ التشاؤم وعدم الرضا، وعلى صعد كثيرة ومتعدّدة الوجوه والصّفات، ومن أسف فإن إبداعات الآداب والفنون لا تنجو من هذه التشاؤمية الهالكة، فلقد توارث أهلها، وبالعدوى، كل التعابير والقولات والنداءات التي تؤجّج نيران التشاؤمية، فراحوا يردّدونها ويؤيدونها، وكأن الحياة الأدبية والفنية غدت بيادر رماد، أو بيادر قشّ أو شوك، والحق أن الأمر ليس كذلك مطلقاً، فالتشاؤمية، وكما يرى علماء النفس طبع، وربما هي سلوك، أو عتاب جهير حين تدنو الغيوم ولا مطر، وحين تعرّش الأحلام ولا وقائع، وحين تكثر الفصول ولا تنوّع، ولهذا لابدّ من البحث عن نوافذ جديدة تأتي بهواء جديد وأضواء لا شبهة فيها، ولابدّ من عيون يواقظ باهرة، وعقول عارفة تقول إن في حياتنا الأدبية والفنية غنىً مهماً لتجارب أدبية وفنية كبيرة، وكبيرة جداً، بحضورها الإبداعي، وأهلها وأصحابها ما زالوا بيننا أحياء، يكتبون ويرسمون ويبدعون في شتى الميادين التي توافقنا على أنها تنتمي إلى الآداب والفنون الأصيلة ذات المكانة والرصانة والجدّة، أي الآداب والفنون ذات الهيبة الإبداعية القادرة على افتراع الدروب، واشتقاق المعاني، واستنبات المدهش الرائع وتجسيده، ولأن المساحة واسعة فإنني سأقصر حديثي على الآداب ومبدعيها الكبار الذين مازالوا حراساً لكل نبيل وجميل ونايف في الآداب عامة.
بلى ما زال بيننا نقاد أدب على مستوى عالٍ من الرقي المعرفي، هم ليسوا ثروة جمالية لبلادنا العزيزة، سورية، فحسب، بل هم ثروة جمالية للعالم كلّه، بيننا الناقد حنّا عبود الذي أعدّه أحد أهم العقول النّيرة في بلادنا العربية، فهو ومنذ سنوات بعيدة، يعدّ أحد أهم العارفين بماهية النقد الأدبي، وأحد أهم الفاعلين الناشطين في مجال النقد الأدبي من نواح ثلاث هي: التنظير النقدي المرفود بالقراءات والتأويلات الجديدة، والترجمة لأهمّ منجزات بحوث المدارس والمناهج النّقدية في العالم، وبيان مرتكزاتها وما تسعى إليه من مآلات، والأمر الأهم هو النقد التطبيقي الذي لا يتجاهل ميزات ثقافتنا وخصوصياتها، وإبصار الجمال الأصيل في النصوص الإبداعية (شعراً، وسرداً)، وكتب النّاقد حنّا عبود بيننا، وفيها كنوز معرفية هائلة، وهي منتشرة في البلاد العربية، وتدرَّس في الجامعات. وبيننا شعراء كبار ما زالوا حراساً للشعر الذي يشبه الحقول في غناها، والبيادر في غلالها، ومن هؤلاء عبد الكريم النّاعم، وأحمد يوسف داوود، ونزيه أبو عفش، وشوقي بغدادي، وصالح هواري، وهؤلاء مرايا في كتاباتهم، وهم حواضر أدبية في تجاربهم، وفي السّرد الأدبي بيننا كوليت خوري، ووليد إخلاصي، وغادة السمان، وعبد الفتاح قلعه جي، وفرحان بلبل، وهؤلاء مرايا أيضاً في كتاباتهم، ولهم شهرة واسعة في جلّ الأنطولوجيات الأدبية المعروفة.
أقول هذا، وأشير إليه، لأن التشاؤمية تكاد تكون متسيّدة فما عادت ترى، في هذه الأيام، إلا كلّ ما لا يروق للعين والقلب الواعيين، وتعدّه هو حجر الزاوية في المشاهد الأدبية، وهذا ليس صحيحاً، لأن حجر الزاوية في الإبداع هم أهل التجارب الكبيرة التي ناددت التجارب الأدبية الكبيرة في البلاد العربية أولاً، والتي عرفت طريقها إلى اللغات العالمية ثانياً، صحيح أن التشاؤمية غير المستحبة، يعلو صخبها هنا وهناك، ولكن من قال إن الصخب.. موسيقى!.
Hasanhamid55@yahoo.com