رحل وليد إخلاصي.. الكنز الأدبي الثمين
رفع وليد إخلاصي الأدب العربي في العصر الحديث إلى أعلى المراتب والدرجات الأدبية، وسعى لكي يضع بصمة بالغة الأهمية على المتذوّقين للأدب العربي والفنون التابعة له، وذلك من خلال مشاركاته في الكثير من الأمسيات والمؤتمرات والمهرجانات. وفي الأمس ترك وليد إخلاصي قلمه وحيداً وغادر مكتبه وملجأه تاركاً خلفه إرثاً عظيماً عن عمر ناهز 87 عاماً.
حياته
ولد وليد إخلاصي في لواء اسكندرون في 27/ 5/ 1935، لأسرة حلبية، وعاش طفولة صعبة بسبب الظروف الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك، تلقى تعليمه في مدينة حلب، حيث درس المرحلة الابتدائية في مدرسة الحمدانية، والثانوية في التجهيز الأولى – المأمون، والجامعية في كلية الزراعة – جامعة الاسكندرية بمصر ليحصل على بكالوريوس في العلوم الزراعية عام 1958، ودبلوم الدراسات العليا القطنية 1960. ابتدأت حياته الوظيفية في مديرية اقتصاد حلب، ومحاضراً في كلية الزراعة بجامعة حلب، ثم انتقل إلى المؤسّسة العامة لحلج وتسويق القطن عام 1966.
المقعد المريح
يعدّ وليد إخلاصي من الأدباء القليلين الذين تميّزوا في أكثر من مجال أدبي، وربما كانت صفة الأديب هي الأكثر توصيفاً، فهو ليس قاصاً أو روائياً أو مسرحياً وحسب، وإنما هو كلّ ذلك معاً، إنه قاص بقدر ما هو روائي، وهو روائي بقدر ما هو مسرحي، ولا يمكن تغليب هذه أو تلك من الصفات على أدبه، بل لا يمكن تغليبها حتى على هذه المرحلة. أما عن اختيار النوع الأدبي الذي سيكتبه فيتبرأ من اختياره، وينسب الاختيار إلى النص نفسه، حيث يقول: “لست أنا في كل الأحوال من يحدّد جنس النص، فالقصة تولد قصة وكذلك المسرحية، لأن الشكل الفني النهائي هو الذي يفرض نفسه، وعندما يحدث التطابق بين الشكل والفكرة يجد النص نفسه في المقعد المريح”.
صفاته الشخصية
بعيداً عن صفة الأدب، تمتّع وليد إخلاصي بصفات شخصية أكسبته ودّ واحترام جميع من عاشره، ومنهم صديقه الدكتور سعد الدين كليب الذي عاشره سنوات طوال، فلم يلمس منه إلا كرم الأخلاق وسمو النفس وطيبة الطبع، يقول في مقدمة كتابه (وليد إخلاصي في إحدى عشرة قصة): والحق أنني ما رأيت الأستاذ وليد إخلاصي يخرج ولو مرة عن طور الرضا، ما رأيته يتذمّر أو يهتاج أو يمتعض بما يجعله يخرج عن طوره المكين، وعندما كنّا نختلف في الرأي كان أسرعنا إلى الصمت، كان دائماً في لحظات مثل هذه يقول: أنتم الباقون والرأي يذهب ويعود.. علّمنا كيف نعيش رغم اختلافنا.
ويؤيد ذلك ما كتبه عبد الغني هباش في مقاله المنشور في مجلة الفيصل عن طباع وليد إخلاصي الشخصية: كتب مرة أحد الزملاء مقالاً يهاجم ويمسّ وليد إخلاصي، وتوقعت أن يردّ وليد بالعنف نفسه الذي هوجم به، وقابلته يوم نشر المقال فسألني وهو يبتسم: هل قرأت ما كتبه فلان؟ قلت نعم هل ستردّ عليه؟ قال لا.. فظننت لأول وهلة أن الزميل ليس أهلاً للردّ أو ليس بمستوى ردّ وليد إخلاصي، ولكن تبيّن لي غير ذلك حينما أردف قائلاً: لن أردّ، فهو صديقي وأخشى أن أبادله الردّ فأجرح شعوره أو أؤلمه”. ورفض وليد أن يدافع عن نفسه لأنه يضع الصداقة في المقام الأول، أما المسائل الشخصية فلم يكن لها في حياته أو في عمله أي حساب.
مساهماته ومؤلفاته
ترأس وليد إخلاصي فرع نقابة المهندسين الزراعيين في حلب أكثر من مرة، وترأس فرع اتحاد الكتّاب العرب في حلب أكثر من مرة، وهو عضو منتخب في مجلس اتحاد الكتّاب العرب لثلاث دورات متعاقبة، وساهم في تأسيس مسرح الشعب والمسرح القومي والنادي السينمائي بحلب، عمل في الصحافة الأدبية وخصوصاً في مجلة الموقف الأدبي. وإلى جانب ترؤسه العديد من المناصب الإدارية فقد كتب العديد من المؤلفات التي برزت بشكل كبير في العصر الحديث، ومن أهم تلك المؤلفات ما يلي: مسرحية “العالم من قلب ومن بعد”، ورواية “شتاء البحر اليابس”، “أحضان السيدة الجميلة”، والمجموعة القصصية بعنوان “الطين”، “الدهشة في العيون القاسية” و”التقرير”.
المسرح
كان هاجس التجريب والبحث عن أشكال للمسرحية مصاحباً وليد إخلاصي في رحلة التأليف التي بلغت 54 عملاً، عرف اثنان وعشرون منها طريقه إلى جمهور المسرح العربي في معظم عواصمه.
برزت ظاهرة “المسرح داخل المسرح” عند وليد إخلاصي على نحو متفاوت في ستة أعمال نذكرها مع تواريخ تأليفها لما لذلك من أثر في تحليلها، وتوضيح العلاقة فيما بينها: (الصراط 1975 – حدث يوم المسرح 1977 – سهرة ديمقراطية 1979 – السماح على إيقاع الجيرك 1983 – عجباً إنهم يتفرجون 1986 – مَن يقتل الأرملة؟ 1978)، وكانت رسالة المسرح في بثّ الوعي والتغيير محور هذه المسرحيات، ويتصل به أمران، أولهما كشف أوراق هذا العالم السحري أمام المتلقين من مصاعب التأليف وخلافات المخرجين والممثلين، والتأرجح بين صوفية الفن ونهم مادي للكسب، وتربّص العيون، التي تحاول أن تقرأ ما بين السطور وأطراف كلمات الدراما لتقصّ أجنحة توّاقة إلى الشمس، وبهذا يغدو المتفرّج لاعباً مع الفرقة التمثيلية ولا يغيب في ظلام الفرجة المسترخية.
الزمن الحلبي
صرّح وليد إخلاصي في عدة حوارات أجريت معه بارتباطه الوثيق بمدينة حلب، على الصعيد المكاني، حيث يقول: “نزعة الملكية الوحيدة المتجسّدة عندي هي انتمائي للمدينة وللأماكن والناس، في علاقتي مع حلب نشأ عندي غرور شديد قد يكون عيباً فيّ لأنني أعتبر نفسي الشاهد الدائم على ما يجري في المدينة، وعلى ما بقي منها، وعلى الرغم من أن مثل هذا القرار لا يحقّ لي لكنني أصرّ عليه، والموقف اللاحيادي يبعدني عن خانة المؤرّخين الذين نعرفهم بحياديتهم، فأنا لست أميناً على حلب لأني أحبها وأغفر لها كل ما يحدث وسوف يحدث في المستقبل”.
وجاء في إحدى مقالاته الأدبية بعنوان “في رحاب السيدة الجميلة”: “ولدت حلب يوم كان التاريخ يجهل التدوين، وقد تحلّقت بداية في رحم صغيرة لأرض واسعة امتدت تضاريسها وتنوّعت ما بين كثبان رمل وهضاب كوّنها الصخر وغابات اختارها الزمن القديم لتكون سوراً يفصل نهر الفرات من الشرق عن شواطئ البحر الأبيض في الغرب، وكأنما كُتب على الصبية الشهباء منذ البداية أن تكون وسطاً”.