الترويج الأمريكي لـ”الغزو” الروسي لأوكرانيا؟
سمر سامي السمارة
مع استمرار إدارة بايدن في نشر الدعاية المؤيّدة للحرب، وترهيب أوكرنيا من “غزو” روسي ممكن أن يبدأ في أي لحظة، من الأهمية بمكان فهم الأسباب التي تجعل صانعي السياسة الأمريكيين يستخدمون مثل هذا الخطاب الخطير. ومن المفارقات، في حالة اندلاع صراع عسكري بالفعل بين روسيا وأوكرانيا، ستكون الدولة الوحيدة الأكثر مفاجأة، هي الدولة التي تتحمّل مسؤولية نشر معظم المعلومات المضلّلة حتى الآن.
ووسط سيل من “المعلومات الاستخبارية السرية” مجهولة المصدر بأن “الغزو الروسي” كان وشيكاً، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بامتعاض خلال مقابلة صحفية، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي: “إذا كان لديك أو لدى أي شخص آخر أي معلومات إضافية حول الغزو الروسي بنسبة 100٪ لأوكرانيا، فيرجى تزويدنا بهذه المعلومات، نحن نعمل بشكل يومي، ونتلقى المعلومات من استخباراتنا، كما أننا ممتنون لوكالات الاستخبارات في البلدان الأخرى”.
هذا الطلب المفاجئ من الزعيم الأوكراني دفع المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى التعليق: “هل سبق ورأيت أي شيء من هذا القبيل؟ منذ شهرين تسخر القوى الغربية من الفطرة السليمة والشعب الأوكراني، في وقت تنفذ حملة استفزازية عالمية أخرى”.
بطبيعة الحال، لم يتلقَ زيلينسكي أي “معلومات استخباراتية خاصة” لإثبات أن الروس كانوا يشحنون محركاتهم لشنّ هجوم شامل على الأراضي الأوكرانية. كل ما حصل عليه الزعيم الأوكراني بدلاً من الاستخبارات الذكية كان مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي قيل إنه نطق بالحماسة نفسها، إشارة إلى البعبع الدائم المعروف باسم “العدوان الروسي”.
إذاً ماذا يجري هنا؟ لماذا تصرّ إدارة بايدن على دفع الخيال نحو “غزو روسي”، في حين أنه لا يوجد أي دليل على الإطلاق يشير إلى أن موسكو تسعى إلى مثل هذه المغامرة؟.
أولاً، من المهمّ أن نتذكر أن السمة الأساسية للسياسة الداخلية للولايات المتحدة تميل للتسرّب إلى المسرح الجيوسياسي مع كل العواقب القبيحة. ففي الوقت الحالي، يخوض الديمقراطيون معارك من أجل حياتهم السياسية مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية في تشرين الثاني المقبل. ومع تدهور الاقتصاد الأمريكي، واتخاذ الأمريكيين موقفاً ضد تجارب الاستيقاظ الجذرية -التي تمسّ كل شيء بدءاً من اللوائح الصارمة لمكافحة كوفيد التي تبناها الديمقراطيون بحماس مثير للقلق، إلى تدريس نظرية العرق النقدية في الفصل الدراسي- يرى كثير من النقاد أن الديمقراطيين سيفقدون سيطرتهم على مجلس النواب بهامش كبير، ويليه البيت الأبيض عام 2024.
بعبارة أخرى، يحتاج بايدن، الذي وصلت شعبيته إلى أدنى مستوياتها خلال فترة رئاسته، للقول إن إدارته كانت دقيقة لوقف “الغزو الروسي”، ومع وجود وسائل الإعلام الأمريكية المضلّلة، سيتمّ نشر أخبار “انتصار” بايدن على نطاق واسع للاستهلاك الجماعي. لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن بايدن، يفتقر تماماً إلى العمق عندما يتعلق الأمر بالخبرة في السياسة الخارجية، كما هي الحال مع المملكة المتحدة، وخاصة عندما التقى مؤخراً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيرته البريطانية ليز تروس، التي تركت انطباعاً كبيراً عندما تعهّدت بعدم قبول التعزيزات العسكرية لمدينتي روستوف وفورونيج، غير مدركة على ما يبدو أن هاتين المدينتين الرئيسيتين تقعان في غرب روسيا. ربما تتخيّل أن أي صراع نظري بين روسيا وأوكرانيا سيبقى حرباً بعيدة بالوكالة، حيث تظل الولايات المتحدة وحلفاؤها بمنأى عن التداعيات. وبالتالي، فإنهم سيشعرون بالاضطرار لمنح كييف إحساساً زائفاً بالأمن بأن الناتو سوف يسارع لإنقاذها إذا وصل الأمر لذلك.
في هذا الصدد، يقول مراقبون: نأمل ألا ينسى الزعيم الأوكراني المصير الذي حلّ بالرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي في شهر آب 2008، عندما اتخذ قراراً متسرعاً بشنّ هجوم مفاجئ على مدينة تسخينفالي، عاصمة أوسيتيا الجنوبية حيث كانت تتمركز قوات حفظ السلام الروسية. إذ ألقى تقرير مستقل بتكليف من الاتحاد الأوروبي باللوم على ساكاشفيلي، الذي رهن كل ذلك بتدخل الناتو، لإشعال الحرب مع روسيا التي استمرت خمسة أيام.
أخيراً، لدى الولايات المتحدة مصلحة قوية في تأجيج الأزمة الأوكرانية، ليس فقط كوسيلة لإبقاء حلفائها في الناتو، والحفاظ على مبيعات الأسلحة بشكل نشط، ولكن لتخريب خط أنابيب نورد ستريم 2 الروسي إلى ألمانيا.
هذه الشراكة الاقتصادية العميقة بين موسكو وبرلين، والتي تربط روسيا بالاتحاد الأوروبي، تتعارض تماماً مع الهدف الاستراتيجي المهيمن للحكومة الأمريكية لمنع ظهور تحالف ألماني روسي، والذي من شأنه، جنباً إلى جنب مع الصين، إنشاء قوة عالمية بديلة قادرة على تحدي مكانة “القوة العظمى المنفردة”.
من الجدير بالذكر، أن وزارة الدفاع الروسية نشرت لقطات لدبابات روسية ومدفعية ثقيلة أخرى عائدة إلى روسيا من بيلاروسيا المجاورة بعد تدريبات عسكرية، ما أدّى إلى تقويض رواية “العدوان الروسي” بشكل كبير. ولم تفوّت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا أي فرصة لتوجيه العار للمسؤولين الأمريكيين والأوروبيين لإصرارهم على أن روسيا تستعد لشنّ ضربة عسكرية ضد جارتها، مضيفة أن الغرب “تعرّض للعار والتدمير دون إطلاق رصاصة واحدة”.
سيكون من المثير للاهتمام الآن أن نرى كيف ستستجيب آلة الدعاية الأمريكية لاحتمال السلام “المقلق لها” بعد أن استثمرت كثيراً على النتيجة المعاكسة تماماً!.