أوكرانيا.. “الثورات الملونة” معكوسة
بسام هاشم
لماذا تحتج الولايات المتحدة على الاعتراف الروسي بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وهي التي كانت أسست سابقة تاريخية، قبل أقل من ثلاثة أعوام، عندما أقدم ترامب، ومن جانب واحد، على الاعتراف بقرار ضم الجولان السوري المحتل، وإعلان القدس “عاصمة إسرائيلية”؟ ولمن تتوجه الإدارة الأمريكية بالدعوة للامتناع عن اتخاذ أيّ قرار،ٍ أو عملٍ، من شأنه تقويض وحدة أوكرانيا، والحفاظ على سلامة أراضيها، فيما هي تقتطع مساحات واسعة للإرهابيين والانفصاليين على الحدود مع دولتين، أو دولتين مجاورتين لسورية، وترعى بقاء وحماية المجموعات المصنفة إرهابية على اللوائح الأمريكية قبل غيرها؟ في ملاحظة عابرة وأولية، يتكرر مشهد كازاخستان نفسه، ونستعيد السيناريو ذاته، خلال أقل من شهرين، في أوكرانيا: السحر ينقلب على الساحر، مرة ثانية وثالثة!! وبغض النظر عن أية تداعيات محتملة، فإن من المستحيل بعد الآن استبعاد واقع أن روسيا قررت تثبيت خطوطها الحمراء بيدها، وحماية أمنها القومي في مواجهة التهديدات متعددة الأبعاد – بما فيها التهديدات النووية والإرهابية – التي بات يمثلها نظام زيلنسكي، “الدمية”، وعصاباته من النازيين الجدد.
وبعد أن رفضت سلطات كييف، طوال ثماني سنوات، الالتزام بتنفيذ اتفاقيات مينسك، المدعومة من مجلس الأمن الدولي؛ وبعد أن تعاملت واشنطن مع ورقة “الضمانات الأمنية” العاجلة باعتبارها فرصة لشراء الوقت، بانتظار التفجير الأمني الذي تعد له الاستخبارات الأمريكية بدقة متناهية؛ وبعد أن تحول جهاز الدولة الأوكراني بالكامل إلى سلاح بالوكالة مناهض لروسيا في الحرب الهجينة الجديدة؛ وبعد أن اتخذ الناتو قراراً باستغلال أوكرانيا كمنصة “داخلية” لـ “احتواء” مشروع روسيا الدولة الحضارية، كان لابد من المبادرة من خلال العودة إلى مجموعة من الوسائل والأدوات التي تتجاوز مجرد الاعتراف بجمهوريتي دونباس، فالتهديد الوجودي الزاحف الذي يشكله مشروع توسيع الناتو يجب أن يتوقف، والانقلابيون الذين رهنوا اقتصاد أوكرانيا للإرادة الخارجية، وسلموا مؤسسات البلاد للسفارة الأمريكية تحت ذرائع مختلفة، والذين يواصلون ترتيب الأمور لمعاقبة الكنيسة الأرثوذكسية، بل ويدفعون أوكرانيا إلى الحرب مع روسيا.. هؤلاء لا بد من لجمهم وإلزامهم حدودهم عبر تغيير المعطيات والحسابات العسكرية والسياسية القائمة والمستمرة منذ سنوات، من خلال إبداء الاستعداد لتطبيق مفهوم “مسؤولية الحماية” لضمان أمن الجمهوريتين المعترف بهما حديثاً، أولاً، ولربما ولربما اللجوء إلى اعتماد سياسة “تغيير النظام” في كييف، عبر توسيع الدعم السياسي لمعارضة تستولي على السلطة من خلال “ثورة ملونة” – حقيقية هذه المرة – يتم تنظيمها لإجبار حكومة انتهازية مدعومة من الغرب على السلام مع محيطها الإقليمي، وخاصة “الأم” روسيا.
للحظة عابرة، وفي”نشوة” انتصار الحرب الباردة، أعلنت واشنطن “نظاماً عالمياً جديداً” تحت قيادتها، وعن “نهاية التاريخ”. واليوم، وبعد أكثر من 30 عاماً على تفكك الاتحاد السوفييتي، تبدو الولايات المتحدة بمثابة مرجل من الفوضى الداخلية والخارجية: هياج صارخ لا يتوقف، وبروباغاندا دؤوبة للعثور على ذريعة لاستخدام القوة الغاشمة.. ولكن أحد أكبر النتائج المؤلمة لهذا السلوك المنحط كان الدوس على القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، بمساعدة ماكينة إعلامية ضخمة، يطلقون عليها اسم “الصحافة الحرة”. لقد شكلت الحرب ونظريات “صياغة عدو” مفترض ضرورة حيوية لتشغيل الزعامة الأمريكية العالمية، كما وفر الوجود المستمر لمثل هذا العدو استمرار علاقات الهيمنة تحت شعار “الدفاع عن العالم الحر” وحماية “الأصدقاء” و”الحلفاء” و”العملاء بالوكالة”. ولكن ما انتهى إليه كل ذلك هو أن الولايات مضطرة اليوم أن تلعق جراحها، وتتجرع السم ذاته الذي أذاقته لـ “أعدائها” الحقيقيين والمفترضين.. “ثورات ملونة”، غير أنها معكوسة هذه المرة.
ما هو معروف على وجه اليقين هو أن بوتين قلب المعطيات رأساً على عقب، وأن على الولايات المتحدة الأمركية وحلفاؤها أن يعتادوا على الوضع الجديد، مهما كان مستوى التحليل الذي يقدمونه. وقد يتدهور الموقف، ولكن ليس في الحدود التي تدفع واشنطن وشركاءها الأطلسيين لخوض المواجهة العسكرية التي ينتظرها الشوفينيون في العاصمة الأوكرانية، ولكن الثابت هو أن صفحة كبيرة تنطوي في حقبة القطبية الأحادية، وقد تكون الصفحة الأخيرة، ولربما يكون اللجوء إلى مواجهة الإمبراطورية بأسلحة وشعارات هيمنتها إحدى أبرز المؤشرات على تهالكها وانحطاطها.
رغم ذلك، ليس من الضروري النظر إلى الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك باعتباره “تصعيداً”، فقد يكون الحلقة الأولى من سلسلة تفاوضية تستهدف حل أزمات متشعبة ومتراكبة تبدأ من الحرب داخل أوكرانيا، وأزمة الصواريخ الأمريكية “الصامتة” في أوروبا، وقد لا تنتهي فقط بـ “رفع” اليد الأمريكية عن سورية!!