زمن يغادر وجداننا
سلوى عباس
وكأنهم متفقون أن يحزموا أمتعتهم مستعدين للرحيل واحداً إثر آخر، هكذا يبدو الرحيل الذي غيّب الكثير من الأدباء والفنانين الذين غادروا دنيانا في أوقات متقاربة وكأنهم على موعد واحد، رحلوا، وبرحيلهم نفتقد لزمن شكّلوه بتجاربهم وعطاءاتهم التي حُفرت في وجداننا، فبالأمس غادر الشاعر خالد أبو خالد، وقبله كان الأديب وليد معماري، ووليد إخلاصي، وكثيرون غيرهم، ومنذ أيام غادرنا فنان من الطراز الفني الرفيع، فنان كان ولزمن يمتد في روزنامة الحياة لسنين لا تحسب بمقياس زمننا العادي، يقدم أغنيات تأسر سامعها، وتلامس شغاف الروح فتؤلقها، ويصقل ابتهاجنا بشفيف شاعري يتبدى في كلماته، كضوء شاحب ينزف فيه تراثاً من الوجع والاستكانات المؤلمة، هكذا رفع الفنان سامي كلارك أشرعته باتجاه مغاير لاتجاهات أهله ومحبيه، إذ توقف ينبوعه عن التدفق بعد مغالبة طويلة مع المرض، توقف القلب عن النبض دون كلمة وداع.
اليوم، وبعد غياب طويل عاد الفنان سامي كلارك إلى الذاكرة عبر خبر وفاته، حيث اشتعلت صفحات الفضاء الأزرق بعبارات الرثاء لهذا الفنان، ولصوته الذي كان بالنسبة لجيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وعداً بأيام أجمل، وبطمأنينة آتية لا محالة غذّت ذاكرة ذلك الجيل بأغنيات رومانسية ووطنية، شكّلت ذاكرة جيل كامل من الذين تأثّروا بهذه الظاهرة الفنية التي غنّت للحب والوطن والفرح، وشكّل رحيله إجماعاً لدى سكان الفضاء الأزرق على أنه رفيق الطفولة الجميل في زمن كانت القنوات التلفزيونية الأرضية هي الوسيلة الوحيدة لتواصل الفنان مع الجمهور، ولكن مع فورة الفضائيات والنجوم الذين بدأت شركات الإنتاج الفني والبرامج الفنية الغنائية بتصنيعهم منذ بداية التسعينيات، أُعلن أفول زمن فني جميل ليعيش على أطلاله عصر فني جديد لا يتناسب مع ذائقتنا ووجداننا، وكان بمثابة اقتلاع لجزء أساسي من ذاكرتنا.
رحيل هؤلاء المبدعين هو بمثابة حداد على مرحلة شكّلت المخزون الفكري والفني الأكبر في وجدان وشخصية أجيال متتالية، فقد رحل سامي كلارك تاركاً وراءه إرثاً ضخماً يزيد عن 700 أغنية بلغات عدة، إذ عكس في مسيرته الفنية العصر الذهبي للأغنية العربية غزت بجمالياتها العالم العربي في النصف الثاني من القرن الماضي، وأصبح أيقونة فنية مزجت بين الشرق والغرب.
لعل الكلام الذي نعى به وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى الفنان الراحل كلارك يعبّر بعض الشيء عن حالة الفقد التي نعيشها مع كل غياب، إذ قال: “لايزال الموت يطوي من الزمن الجميل قامة بعد قامة، سامي كلارك صاحب الصوت الاوبرالي الذي حجزت حنجرته للبنان حيزاً واسعاً في مجال الأغنية الأجنبية، وفي مجال الرسوم المتحركة (غرندايزر)، وصوته فيها لا ينمحي من ذاكرة العرب، ترجل اليوم عن صهوة صوته وألحانه وحضوره الأنيق، ليستوطن تراث هذا البلد وذاكرة أجياله، وليبقى كالياسمين، إذا ذبل زهره بقي عطره”.
رحل الفنان المبدع الذي أحببنا أغانيه الجميلة خلال مراحل حياتنا من غرندايزر إلى جزيرة الكنز، ولمن تغني الطيور، إلى أغنياته العاطفية: “آه على الأيام- قومي تنرقص يا صبية، قلتيلي ووعدتيني”، وغيرها من الأغنيات، الصوت الذي طالما حمل أبناء جيلنا إلى عوالم الدهشة والمغامرات على دروب حلمنا.
اختصر سامي كلارك أحلام جيل كامل، وشكّل بفرادة مذهلة ذاكرة وجدانية ستستعيده كلما حنّت إلى طفولتها، لقد غادر الدرب، وبرحيله صفحة دافئة من صفحات تطوى، فوداعاً يا عُمرنا الجميل.