غادة السمان… أنا شامية عتيقة وإذا نسيتُ دمشق سأموت برداً
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
يأتي تعزيز حضور الكاتبة السورية غادة السمان في المشهد الثقافي السوري المعاصر ومشاركتها في أنشطته الحالية -كما أعلن مؤخراً د.محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب- كجزء من مشروع يسعى الاتحاد لتحقيقه من خلال التواصل مع مجموعة من الأدباء السوريين، والأجمل إعراب السمان كما جاء على لسان الحوراني استعدادها للمشاركة لأنها جاءت وفق تعبيرها من مؤسسة سورية تمثل الأدباء والمثقفين، إذ من المقرر نشر نتاجات السمان في جريدة “الأسبوع الأدبي” الصادرة عن الاتحاد وفق برنامج يعدّه رئيس تحريرها أ.توفيق أحمد.
أكثر الأصوات فرادة
وصفها الكاتب يوسف إدريس بأنها ثورة في الأدب النسائي وتتمتع بفصاحة عربية منقطعة النظير، وقال عنها البروفيسور ايروس بالديسيرا في جريدة “الكويري دل تيشينو” الإيطالية: “انطلاقات الخيال الخلّاق لديها تجعل منها واحدة من الأصوات الأكثر تجديداً وأصالة في الأدب العربي المعاصر في حين وصفتها مجلة “ماريكلير” الإيطالية بأنها “صوت من أكثر الأصوات فرادة وأصالة وقدرة تصويرية في الأدب العربي المعاصر” أما هي وحين سُئِلت مرة في إحدى مقابلاتها الصحفية في إيطاليا: “كيف تريدين تقديم نفسك؟” أجابت: “لا أعرف بالضبط كيف أُقدّم نفسي للقارئ الإيطالي، هل أقول له ما قلته للقارئ العربي: أنا إعرابية عمرها 2000 سنة، هل أُقدّم نفسي بهذا الأسلوب أم أستعمل صيغة أكثر بساطة: أنا كاتبة وامرأة عاملة، زوجة وأم، وصاحبة دار نشر في آن واحد، كما كتبت: “أنا لستُ نوعاً من النساء،أنا مخلوق متوحد حزين شارد بين العصور والبلدان، أشبه بومة فضولية ليلية تطير بحثاً عن الحقيقة أكثر مما أُشبه أنثى لطيفة مدجنة من نوع معين كأنني روح سجينة في جسد وعصر ومكان.
الزحف في حقل الزجاج المطحون
ولِدت غادة السمان في قرية الشامية في محافظة اللاذقية، وهي لا تذكر عن أمها شيئاً غير زيارتها لقبرها كل عام، فتربّت في كنف جدتها لأبيها، لذلك احتلّ أبوها المكانة الكبيرة في طفولتها، وقد لازمته طويلاً، فأثّر في نفسيتها وطبعها بطابع جدّي، فلم تعش طفولتها، وكانت علاقتها مع عالم الكبار دوماً أمتن من علاقاتها مع رفاق المدرسة، وكان والدها فقيراً وعصامياً وكادحاً، استطاع أن يتعلّم ويصبح أستاذاً جامعياً فعميداً لكلية الحقوق بدمشق، ثم رئيساً للجامعة فوزيراً للتربية، ومن هنا تشربت منه الصبر والإرادة وحب العمل، وفي المرحلة الثانوية حرص والدها على تعليمها وإتقانها للّغتين العربية والفرنسية وتوجيهها باتجاه دراسة الطب إلا أنها فضّلت دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، فكان لها ما أرادت، وفي هذه المرحلة بدأت شخصيتها الحقيقية بالبروز والتكوين والصقل، وجمعت بين الدراسة الجامعية والعمل كموظفة في مكتبة، ثم مدرّسة لغة إنكليزية في إحدى ثانويات دمشق، وتذكر غادة السمان هذه الفترة بفخر، إذ مكّنتها من تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وفي العام 1964 انتقلت من دمشق إلى بيروت لمتابعة دراسة الماجستير في الأدب الإنكليزي، وسرعان ما أمّنت لنفسها وظيفة مدرّسة في إحدى الثانويات هناك، إلا أن عملها في التدريس لم يدم طويلاً، إذ اكتشفت أن العمل الصحفي أكثر سلامة لطبيعتها، وبرز اسمها كثيراً وصارت واحدة من أهم نجمات الصحافة يومَ كانت بيروت مركزاً للإشعاع الثقافي، وبعد ذلك سافرت السمان إلى لندن لمتابعة دراسة الدكتوراه، وفي صيف العام 1969 توفي والدها ووقعت بينها وبين أسرتها قطيعة سببها الحقيقي “رغبتي بالاستقلال التام والحرية” كما تقول، وتعد هذه الفترة أهم محطة في حياتها الشخصية والأدبية، وقد هيّأتها لأن تعيش أصدق التجارب وأقساها في آن معاً: “في ذلك الصيف كان عليّ أن أواجه فيما إذا كنت صادقة حقاً أم لا في كل حرف كتبته عن الحرية ومواجهة العالم والإيمان بالمبادئ وتحويلها إلى سلوك حتى النهاية ومهما كان الثمن.. لقد وقفتُ وحيدة فعلاً” وكانت ميزة هذه المرحلة أنها مكّنتها من أن تعيش بكل جوارحها اكتشاف ذاتها والآخرين، فتنقلت بين مختلف العواصم الأوربية وغرقت في مسارحها ومتاحفها ومكتباتها إلى أن اكتشفت وأدركت رغم امتلاكها لحريّتها الفردية أن حرية الهرب بعيداً عن الوطن لا تجدي، وأن الانتماء حقيقة، وأنه لا مفر من العودة والبدء بالعمل في أي قطر عربي.. من هنا اختارت بيروت لتعود إليها وهي أشد التحاماً بقضايا الوطن، ثم عادت وغادرتها إلى باريس عام 1976 بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 لكنها لم تنقطع عن زيارة لبنان حتى استقرت نهائياً في باريس عام 1984 والكتابة في الصفحة الأخيرة في مجلة “الأحداث” وبعد وفاة زوجها عام 2007 عاشت في عزلة بعيداً عن الأضواء، إلا أنها ظلت تؤلف وتعيش حياتها التي وصفتها بأنها رحلة الزحف في حقل الزجاج المطحون: “أكتب لأنني سأموت، أكتب لأنني أشتعل حياة، أكتب كي أنسى، أكتب كي أتذكر، أكتب لأطيق العزلة والغربة داخل سجن الجسد، أكتب لأتواصل والناس، أكتب لأحتمل هذا العالم، أكتب لأبدله، أكتب لأنني امرأة، أكتب لأنني إنسانة، أكتب لألتقي برفاقي الحقيقيين في أقطار كوكبي كلها”.
التنوع في الأنماط الكتابية
عدّت السمّان من أغزر الأدباء العرب إنتاجاً وأكثرهم تنوعاً في الكتابة، فقد مارست كتابة القصة القصيرة والرواية والشعر المنثور والنقد الأدبي والمسرح وأدب الرحلات والعمود الصحفي، وعن هذا التنوع في الأنماط الكتابية لديها تقول: “لا توجد حدود بين النثر والشعر، فالفنان الحقيقي لا يتقوقع ضمن انتماء محدّد محصور في نمط أدبي واحد بل ينتقل بحرية دون تحيز من أحدها إلى الآخر وفق ما يملي عليه الوحي، فالانتماءات للأنماط الأدبية هي تصنيفات تخص النقد، والكاتبة لا تحب أن تتحدد ضمن شكل أدبي واحد، فهي تخلق العمل، ولا يهمها إن ارتدى ثوب النثر أو الشعر”.
من قضايا المرأة إلى القضية الفلسطينية
تدرّجت بدايات غادة السمان الأدبية في إطار الأدب النسائي والحركة النسائية، هذا الأدب الذي اهتمّ بمشكلات المرأة وعبّر عن قضاياها في التحرر، ثم تجاوزت هذا الإطار فوسّعت آفاق الرؤية لديها وصارت تقف ضد التخلف بوجه عام، وقد طرحت في “عيناك قدري” المجموعة القصصية المنشورة عام 1962 والتي كانت أول أعمالها قضايا اجتماعية خاصة بالأدب النسائي، واعتبرت يومها واحدة من الكاتبات النسويات اللواتي ظهرن في تلك الفترة مثل كوليت خوري وليلى بعلبكي، ثم حللت في “لا بحر في بيروت” عام 1963 علاقة الرجل بالمرأة، لكنها في “ليل الغرباء” عام 1966 تحدثت عن حياة الشباب العرب الذي يعيشون في الخارج، أما “ليل الغرباء” فعدّها كثيرون مرحلة أساسية في التطور الأدبي للسمان بتركيزها للمرّة الأولى على بعض المشكلات الحقيقية للوطن العربي مثل القضية الفلسطينية، وقد استطاعت عبر “رحيل المرافئ القديمة” عام 1973 وكانت متشربة بظروف الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 أن تتعمق أكثر في معالجة مختلف القضايا السياسية والاجتماعية.
ومن القصة إلى الرواية
بعد انحياز السمان للقصة القصيرة لمدة 15 عاماً أصدرت عام 1974 أول رواية لها تحت عنوان “بيروت 75” التي حازت من خلالها على جائزة فولبرايت، حيث جعلت من بيروت مدينة الجنون والموت، ثم “كوابيس بيروت” التي وصفت فيها أهوال الحرب وكانت استمراراً لـ “بيروت 75” لتتابع في روايتها الثالثة “ليلة المليار” رسم كوابيس الغربة اللبنانية من خلال انعكاساتها على أولئك الذين تركوا لبنان، وقد وصفها د.محي الدين صبحي قائلاً: “ليلة المليار واحدة من أفضل الروايات العربية المعاصرة وأهمها” أمّا د.علي القيّم فقد قال عنها: “إنها بحق الرواية الأكثر إقناعاً وتكنيكاً وتطوراً في أعمال غادة السمان.. رواية كبيرة تصل إلى حد الإبداع العالمي الذي يعلن عن حدث جديد في الرواية العربية، رواية ترشح غادة السمان بقوة لتتربع على عرش أديبة الأديبات في وطننا العربي وتثبت أنها الأكثر حضوراً وتجدداً في عالم الرواية العربية”.
لحظة هاربة
في العام 1978 نشرتْ السمان كتابات مختلفة من قصص ونقد وأدب رحلات ومقالات صحفية لبعض الصحف والمجلات العربية، إضافةً إلى بعض المقالات والتحقيقات الصحفية والمجموعات الشعرية التي جمعتها في كتاب أسمته “الأعمال غير الكاملة” وفي العام 1979 تحولت السمان إلى كتابة الشعر الحر بعد تجربة طويلة في ميدان الكتابة النثرية من خلال “اعتقال لحظة هاربة” هذا وصدر عام 1979 وأجمع النقاد على أن قصائدها تتمتع بخصوصية سواء في مضامينها أو في أطرها الفنيّة والتعبيرية، فهي الباحثة دوماً عن وعيها الإنساني وشخصيتها الأدبية بإصرار، وقصائدها تمثل مرحلة من مراحل حياتها الأدبية الذاتية، رسمتها بصدق وأمانة، فهي مصدر غني لتجربتها الوجدانية وآرائها الجريئة في الحب، وهي قصائد تنطلق من مبدأ فني لطيف، فالحياة في نظرها فقاعة لا تلبث أن تنفجر وهي جديرة أن تصوّر قبل أن تنفجر، والشعر عندها تصوير للحظات الزمن الهاربة التي تركض وتمحو في ركضها معالم الحياة المتجددة أبداً، والفنان برأيها هو الذي يصطفي من لحظات الزمن أروعها وأجدرها بالتخليد ليصوّرها من وجهة نظره ويخلد معها فكره ومشاعره وأحاسيسه وفنه، وقد دوّنت السمان في مجموعتها الشعرية “اعتقال لحظة هاربة” لحظاتها المتألقة والهاربة مع الزمن من خلال قصائدها التي تضمّنت كلمات تطل من خلفها رقتها الحالمة وأنوثتها المتميزة التي تجمع العنف والتمرد والحرص على أن تكون نداً للرجل في معركة الحب خاصة، وبعد عدة مجموعات شعرية أصدرتهاعبرت في “رسالة حنين إلى الياسمين” عام1996 عن مشاعرها الداخلية في الحنين إلى الوطن وشغفها للعودة إلى دمشق مدينة الياسمين، وكانت وبعد عشرين عاماًعلى وفاة غسان كنفاني قد نشرت في تسعينيات القرن الماضي في ذكرى استشهاده رسائله لها والتي فاضت بمشاعر الحب والشوق، وأحدثت حينها ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية والسياسية.
دمشق يا لؤلؤة الزمن
لخصت غادة السمان علاقتها بدمشق من خلال مقالة نشرتها في مجلة “العربي” عدد شهر 10/2008 تحدثت فيها عن روايتها المستحيلة التي تحب أن تسميها “فسيفساء دمشقية” والتي استعادت منها ما قالته عن دمشق: “لأمعن اعترافاً لم أغادر دمشق وأرحل لمجرد أنني ولدت وفي فمي بطاقة سفر، أو لمجرد رغبتي في متابعة دراسة الماجستير في الجامعة الأميركية في بيروت، وقبلها تشاجرت مع دمشق شجاراً كبيراً كما هي الحال في شجار العشاق الذي لم يطل، فحين قصفت إسرائيل دمشق عام 1973 أعلن الحب العتيق وفاءه وكتبت: “دمشق، أيتها العتيقة كسنديانة الأساطير، طيورك المهاجرة تقطنك أينما كانت، تحترق أجنحتها إذا مرت بصمودك صاعقة، دمشق يا لؤلؤة الزمن، ليست مصادفة أن تضربك إسرائيل، فأنت أقدم مدينة مأهولة في التاريخ وفي مجرد وجودك تحدٍ لكل من يفتقد إلى العراقة والأصالة والعظمة الإنسانية، وكنت دوماً مقبرة للغزاة.. منذ ألف عام كنت أروح جيئة وذهاباً على شرفة بيتي في ساحة النجمة، واليوم مازال شبحي يروح ويجيء على شرفة معلقة في الفضاء، والشعراء والصعاليك والعشاق سيرون شبحي على شرفة بيتي العتيق اللامنسي آخر الليل الشامي وشوقي إلى دمشق لا ينطفئ، وفي العيدالتذكاري للفراق أستند على شجرة الياسمين العتيقة كعكاز وأمشي منتصبة في شوارعالتشرد المزروعة بفخاخ الغربة والعيون المفروشة بالألغام.. وفي الليل ألتحف بالذاكرة وأنام في حضن دمشق، وسادتي عباءة جدي في دكانة خلف الجامع الأموي وفي بيته في زقاق الياسمين محصنة بتعاويذ جدتي، ولن أخونها.. لازلت أرى النباتات المزروعة في صدر الدار وأسمع خرير ماء البحرة الرخامية التي تتوسطه كصدى لأنشودة المطر والبركة.. أخط أبجدية البيت الشامي العتيق بحنين، ولكن حذار من التوهم بأنني أنتمي إلى حزب المنتحبين على الغابر أنتمي إلى الحاضر وإلى مستقبل لايقطع صلته بالماضي كي لا يموت برداً وفقراً إنسانياً.. وإذا نسيت دمشق فسأموت برداً كما أكرر دائماً، ولم أقتلع من قلبي يوماً ياسمينة جدتي لأزرع في موضعها برج إيفل أو تمثال الحرية النيويوركي.. دمشق هي المدينة الأقدم المأهولة في كوكبنا، والمستمرة، ولكنها أيضاً الأكثر شباباً وحيوية، وهنا المفارقة الجميلة.. ولأنني شامية عتيقة أحب أسلافي وقد أتشاجر مع جدي ولكنني لا أجرؤ على تمزيق عباءته ولا تلويثها.. بالمقابل لا أريد أن أرتدي جبة جدي أو أختبئ داخل أكمامه وأنام في جيوبه بشخير تاريخي، أريد أن أرتدي حياتي كما أشاء وأفصّل ثوب زمني على مقاسي.. والتراث ليس بالضرورة إعاقة الإبداع، بل إنه المحفز على الاستمرارية والإبداع وتجاوز الأزمنة إذا عرفنا كيف نسافره.. دمشق مدينة تقطنك حين تغادرها.. دمشق هي الاسم الحركي لسورية عندي، ولكل مدينة عرفتها هناك وأحببتها بدءاً بغابات كسب وصلنفة مروراً بتدمر والقامشلي وحلب والدريكيش وحمص وحماة والسويداء، وسواها كثير في دمي ولا يحصى.. وخلال الحرب على سورية وتبعثر السوريين في المخيمات اللبنانية والأردنية خاطبت السمان كل لاجئ قائلة: “خذوا أولادكم وانتسبوا للجيش السوري.. استعيدوا كرامتكم بكرامته.. استردوا قوتكم بقوته.. رمموا انكساراتكم بجبره.. الجيش السوري عزتكم وكيانكم وكبرياؤكم وحصانتكم.. كونوا رصاصاً في وجه الأعداء في ذخيرته ولا تكونوا عدواً ارتدت عليه عداوته.. أعلم أن دماغكم محقون بعفن الوهم ونتن المغررين الذين استثمروا ذلك وقبضوا ثمنه وعرفوا الرفاهية على أكتافكم المهترئة.. لكن لا بد أن يقرأ أحد حرفي الواخز فتصحو فيه الكرامة في يوم أستنجد الله أن يكون قريباً.