“نورد ستريم 2” على المحك
سمر سامي السمارة
من المقرّر أن يعقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأمريكي أنتوني بلينكين اجتماعاً الأسبوع المقبل في واحدة من المدن الأوربية، وكان لافروف عقد اجتماعات مؤخراً في موسكو مع نظيرته البريطانية إليزابيث تروس، حيث وصف مراقبون ذلك الاجتماع بأنه إهدار كامل لوقت لافروف، فقد كان جهل وزيرة الخارجية مروعاً للغاية، إذ بدا أنها غير قادرة على التمييز بين البحر الأسود وبحر البلطيق، وتسمية مدينتين روسيتين كجزء من أوكرانيا!.
ومن المتوقع أن تكون أوكرانيا على أجندة بلينكين، حيث سيشارك المعتقدات الغريبة لرئيسه بايدن حول الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا. فالولايات المتحدة لا تكفّ عن محاولاتها اليائسة لإلقاء اللوم على روسيا في كل ما يحدث في ذلك البلد، لأسباب ليس أقلها أنها تنوي استخدام “الغزو الروسي” كذريعة لإلغاء خط أنابيب “نورد ستريم 2” من روسيا إلى ألمانيا ونقاط أخرى في الغرب.
للولايات المتحدة دوافعها الأنانية لإنهاء خط أنابيب “نورد ستريم 2″، لأنها ترى السوق الأوروبية كبديل لإمدادات الغاز الخاصة بها، على الرغم من أنها لا تمتلك القدرة على تغطية الـ40٪ من الكهرباء الأوروبية التي يزوّدها الروس، كما أن منتجها أغلى بكثير بالنسبة للأوروبيين.
ويبدو أن الولايات المتحدة مدفوعة بالرغبة في تدمير السوق الأوروبية لروسيا فحسب، وهو هدفها الأساسي، بغضّ النظر عن وجهة النظر الأوروبية. وقد ظهر ذلك بوضوح خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها المستشار الألماني أولاف شولتز إلى الولايات المتحدة، الذي شعر بإحراج شديد من إعلان بايدن الصارخ أن “نورد ستريم 2” سيتمّ إلغاؤه إذا غزت روسيا أوكرانيا.
وتستمر الولايات المتحدة بممارسة غطرستها، فلم يخطر ببال بايدن أن قرار استيراد الغاز الروسي كان قراراً أوروبياً ولا علاقة له بالأمريكيين. فقد كشف هذا الإعلان بشكل واضح عن صورة الأوروبيين بشكل عام وألمانيا بشكل خاص، الذين تحوّلوا إلى بيادق في اللعبة التي كانت الولايات المتحدة تودّ الاضطلاع بها.
في حقيقة الأمر، ستتسبّب خسارة السوق الألمانية من دون شك، بخسارة مالية لروسيا، لكن الضغط الاقتصادي على روسيا لن يكون بالقدر الذي يتخيّله الكثير من الناس، ولاسيما الأمريكيين الذين يرون أنه يسبّب صعوبات اقتصادية لروسيا. وفي الواقع، تمتلك روسيا بالفعل سوقاً بديلة، وهي الصين التي تمتلك الاستعداد والرغبة والقدرة، وقد بدأ العمل بالفعل في بناء خط الأنابيب لنقل الغاز المحدّد أصلاً للسوق الأوروبية إلى الصين، ومن المتوقع أن يتمّ الانتهاء منه في غضون 2 إلى 3 سنوات.
إن الضرر اللاحق بأوروبا وألمانيا جراء فقدان الغاز الروسي سيكون أكبر بكثير، وهو الأمر الذي يبدو أنه خارج معادلة الأمريكيين الذين لا يظهرون أي علامات على القلق بشأن الآثار المدمّرة المحتملة لخسارة الغاز الروسي في السوق الألمانية، ويرى المعلقون الجادون أنه يمكن أن يكون المسمار الأخير في نعش الصناعة الألمانية. والسؤال المطروح هنا: ما مدى استعداد الألمان للذهاب لتحدي رغبة الولايات المتحدة في إلغاء خط “نورد ستريم 2″؟.
للإشارة، والتاريخ بهذا الصدد ليس واعداً، فعلى الرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية قبل 77 عاماً، وتحوّل ألمانيا إلى دولة مُحتلة مع وجود أكثر من 40.000 جندي أمريكي على أراضيها، فمن الجدير بالذكر أن نهوض ألمانيا من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية لتصبح أقوى اقتصاد في أوروبا لا يعني استقلالها السياسي الذي لا يتناسب مع قوتها الاقتصادية.
إن التناقض الحاصل بين كون المرء يتمتّع بثقل اقتصادي، ولكنه في الوقت ذاته قزم سياسي، هو بالتحديد السبب الذي يجعل الألمان يجدون أنفسهم في هذا الوضع الحالي. من الواضح أنه من مصلحتهم تلقي إمدادات الطاقة من روسيا، وهي الرغبة التي لا تتفق مع وجهة نظر الولايات المتحدة. لذا، فإن القرار الألماني بشأن “نورد ستريم 2” سيكون، من نواحٍ عديدة، اختباراً حقيقياً لمدى استقلالهم السياسي، أو مدى رغبتهم في أن يكونوا كذلك.
هناك بعض المؤشرات الصغيرة على أن ألمانيا تسعى لتأكيد استقلالها، ولعلّ إحدى هذه العلامات هو استعدادها للقيام بأعمال تجارية مع الصين، وهو توجّه يُعتبر لعنة بالنسبة للأمريكيين الذين يعارضون بشدة الرغبة المتزايدة للدول الأوروبية، وليس الألمان فقط، إقامة علاقات اقتصادية متبادلة المنفعة مع الصينيين.
ومن المؤشرات الواضحة للاستقلال الأوروبي، هو استعداد عدد متزايد من الدول الأوروبية للانضمام إلى مبادرة “الحزام والطريق”. وبحسب آخر إحصاء، وقّعت 18 دولة أوربية على المبادرة، ومن المتوقع أن يتزايد هذا العدد، وتشمل تلك الدول دول الاتحاد الأوروبي ذات الوزن الثقيل مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
ويرى مراقبون أن هذه علامة بالخير للمستقبل، حيث تحرّر الدول الأوروبية نفسها من العبودية الأمريكية وتتخذ قرارات تتناسب مع مصالحها الوطنية، وتنضمّ المزيد والمزيد من البلدان إلى مبادرة “الحزام والطريق”. وعلى الرغم من البرنامج الشرس المناهض لمبادرة الحزام والطريق الذي يقدّمه الأمريكيون الذين يرون أن نفوذهم في جميع أنحاء العالم يتراجع باطراد، يبلغ إجمالي الدول الأعضاء الآن أكثر من 140 دولة.