المسرح السوري من خيال الظل والحكواتي إلى القباني
لا يمكن الحديث عن تاريخ المسرح في سورية دون التوقف مليّاً عند ريادة أبو خليل القباني في هذا الفن، والتي وثّقتها العديد من الكتب التي اعتمد عليها الكاتب المسرحي سمير عدنان المطرود في محاضرته التي ألقاها في اتحاد الكتّاب العرب مؤخراً، ككتاب “تاريخ المسرح السوري” لوصفي المالح و”المسرح السوري في مئة عام” لفرحان بلبل، وكان المطرود حريصاً في التمهيد لمحاضرته على التأكيد أن سورية عرفت هذا النوع من الفن قبل الميلاد بأشكال فرجوية عديدة، انطلاقاً من أن المسرح هو حاجة إنسانية لا تقلّ عن بقية حاجات الإنسان وشغفه للمعرفة والتخيل والجمال والانعتاق.
ما قبل المسرح
وأشار المطرود إلى أن سورية عرفت أشكالاً من الفرجة الشعبية التي كانت تلبي جزءاً بسيطاً من الحاجة الجماعية والمجتمعية إلى اللعب أو المسرحة، وأبرز تلك الأشكال هي الحكواتي وخيال الظل، حيث كان الحكواتي يتصدّر المجالس في البيوت أو المقاهي ليقصّ السير أو الملاحم الشعبية وسط حماسة المتلقين الذين كانوا يتدخلون بارتجالاتهم خلال سير الحكاية ليشاركوا في لعبة المسرحة عن غير قصد، ليكون الشكل الثاني من الفرجة الشعبية التي كانت سائدة آنذاك هو خيال الظل، وكان يُسمّى في دمشق “خيمة كراكوز”، وهو فن مركّب وأكثر تعقيداً من الحكواتي -برأي المطرود- لحاجته إلى وجود تقنية خاصة يجب توفرها، فالكراكوزاتي ومعاونوه كانوا ينصبون خيمة في المقاهي ويعرضون حكاياتٍ شخوصها أنماط ثابتة، وحركاتها مرنة تتمدّد بالارتجال والتفاعل مع المشاهدين، لهذا فإن هذا الشكل كان بحاجة إلى تجهيزات وبراعة تقنية إضافةً للموهبة، مشيراً إلى أن خيال الظل أدرج من بين الصناعات والحرف التي كانت رائجة في دمشق أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وذكر أن جمال الدين القاسمي الذي ساهم في وضع قاموس الصناعات الشاميّة أوضح أن الكراكوزاتي هو من يُلاعب صوراً مصنوعة من جلد على صفة إنسان وكان لكلّ منها اسم. وبيّن المطرود أن خيال الظل انتشر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتشاراً واسعاً وشكّل جزءاً من النسيج الاجتماعي للحياة المدنية، ولكن حينما عُيّن مدحت باشا والياً لدمشق انتقد وجهاء دمشق المستوى المنحط والألفاظ البذيئة التي كانت تُقَدَّم بها هذه الحكايات. من هنا جاءت محاولته لتغيير هذا الواقع حين شجّع القباني على تنظيم تجربته وإقامة مسرح دائم في دمشق.
أول مسرحي محترف
وبيّن المطرود قبل حديثه عن أبو خليل القباني أن البداية الثانية للمسرح التي تذكرها كتب التاريخ المسرحي تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث انطلق المسرح بشكله الراهن من لبنان بوساطة مارون نقاش الذي أخذ بعض معاني مسرحياته عن الروايات الأجنبية، أما في سورية فكان للقباني 1833-1902 سبق البداية للمسرح في سورية، وهو الذي كان شاعراً وموسيقياً بارعاً، يكتب الأزجال ويقوم بتلحين الموشّحات والأغاني، ويتابع دروس الدين وحلقات الصوفية في التّكايا إلى جانب تعلمه رقص السماح حتى بات مرجعاً في هذه الفنون. وأوضح المطرود أن القباني اتجه نحو المسرح بعد أن كان معجباً بخيال الظل وبمحركه علي حبيب الذي كان أبرع أهل زمانه بتحريك الخيالات التي تُقَدّم القصص الهزلية الضاحكة أو الانتقاديّة أو التاريخية وكان القباني يُقلّده؛ وهذا ما دفعه للتفكير في مشروعه وهو تقديم ما يشبه خيال الظل من قصص وحكايات ولكن عبر أفراد حقيقيين يقفون أمام الجمهور، وقد بدأ بذلك في قاعات البيوت الكبيرة حوالي عام 1865، منوهاً بأن القباني لم يتأثر بتجربة خيال الظل فقط بل تأثر أيضاً بالفرق المسرحية الأجنبية التي كانت تعرض في دمشق، فأخذ منها فكرة عن المسرح والتمثيل والممثلين وتوزيع الأدوار والمكياج، متمماً بذلك ما كان ينقصه، فأسّس فرقة مسرحية، ولكنه لم يفعل كما فعل مارون نقاش عبر اقتباس المسرحيات الأجنبية وتكييفها كي تتناسب مع البيئة، بل عمد إلى التأليف، لذلك حين أقبل على الكتابة كتب مسرحية “ناكر الجميل” التي اقتبس موضوعها عن حكايات “ألف ليلة وليلة”، وقد شارك في تمثيلها بعض أصدقائه واستعاض عن النساء بالرجال، وكان ذلك عام 1867 وقد حصل القباني على التشجيع في دمشق فخرج بأعماله إلى الجمهور بعد أن كانت تُقدَّم ضمن حفلات خاصة، وكانت البداية من خلال مسرحية “وضاح” وقد فوجئ الجمهور بهذا العمل الجريء الذي كان فيه تحدّ لخيمة كراكوز التي كانت التسلية الوحيدة في المقاهي الدمشقية، فأقبل الجمهور على القباني مشجعاً وداعماً، وبعد عدة أعمال أصبح أبو خليل القباني أول مسرحي عربي يحترف المسرح حين تحوّل من مجرّد كاتب يكتب للمسرح ويلّحن الأغاني إلى مخرج محترف رسمياً ويتولى إخراج المسرحيات لتقدّمها فرقته. وبيّن المطرود أن الطامة الكبرى للقباني كانت في دمشق بعد عرض مسرحية “أبو حسن المغفل” التي قوبلت بردّ فعل عنيف من قبل المشايخ، وفي مقدّمتهم الشيخ سعيد الغبرة الذي حرّض الناس عليه، فأحرقوا مسرحه ونهبوا بيته فأصبح مطارداً في الشام من قبل الصبية والفتيان؛ فترك القباني دمشق وسافر إلى حمص التي التقى فيها كبار الموسيقيين فتعلّم منهم وعلّمهم إلى أن رحل إلى مصر مع فرقته المسرحية فقدّم في الاسكندرية 35 مسرحية ولاقى نجاحاً باهراً، لذلك دعاه الخديوي إلى القاهرة، فقدّم عدة مسرحيات فيها ومن ثمّ عاد إلى الإسكندرية، ليعود بعد ذلك إلى دمشق عام 1900 بعد أن أقام في مصر 17 عاماً، قبل أن يذهب إلى شيكاغو في أميركا التي أقام فيها لستة أشهر وقدّم فيها عدة مسرحيات قصيرة.
بين حمص ودمشق
وكان لا بد للمطرود بعد أن أنهى حديثه عن القباني أن يتحدث عن كتاب “حركة المسرح في حمص” لهيثم يحيى الخواجة والذي خالف فيه ما ذهب إليه البعض بأن الريادة الثانية للمسرح في سورية كانت على يد القباني عبر الإشارة إلى أن سليمان الصافي في حمص سبق القباني، وهو الذي كان يملك حديقة واسعة يُقَدّم فيها مسرحيات حواريّة وكان يلبس الصبيان لباس البنات ليقوموا بالأدوار الأنثوية، لذلك هاجمه الحماصنة مما اضطره إلى التوقف عن العمل، ومع ذلك رأى أن هذه المعلومة لا تنفي الريادة عن القبّاني، مؤيداً ما جاء في كتاب فرحان بلبل أن ما تمّ في منزل سليمان الصافي في حمص كان مجرد تمهيد لريادة القباني، خاصّةً وأننا لا نعرف أي شيء عن طبيعة هذه الحواريات التي كان يُقدّمها.
يُذكر أن المحاضرة دعا إليها فرع القنيطرة لاتحاد الكتّاب العرب وقدّم لها الأديب محمد الحفري.
أمينة عباس