أوكرانيا .. صراع نفوذ
محمد نادر العمري
يمكن لأي متخصص في العلاقات الدولية والشؤون السياسية الوصول لقناعة مفادها إن الصراع الدائر بشأن أوكرانيا لا يمكن تصنيفه في خانة الصراعات التقليدية، بمعنى آخر أن ما روج له الأميركان والأوروبيون عن احتلال لأوكرانيا، وتهديد للأمن القومي الأوروبي، هو مجرد إدعاءات في محاولة لتغيير قواعد الاشتباك لصالح الناتو، وفرض أمر واقع على روسيا الاتحادية، وهو ما يتيح للناتو تكرار تجربة ضم دول جديدة، في حال صمت موسكو التي تعتبر أن الناتو يهدف لقضم الدول السوفيتية السابقة لتوسيع نفوذه وإبقاء الأمن القومي الروسي ضمن تهديدات الغرب.
والدليل على ذلك أن روسيا تعتبر أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية حيث تغطي نسبة 1/8 من مساحة الأرض المأهولة بالسكان في العالم بمساحة تبلغ 17،075،400 كيلومتر مربع، وبالتالي لا تريد موسكو إضافة مساحة أخرى وليست بحاجة لتضخيم عدد سكانها ومشاكلها، بما يثقل كاهلها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ولكن الحقيقة تكمن في المخاوف الروسية من تهديد أمنها القومي نتيجة توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) بضم أوكرانيا، وهو الأمر الذي لا يمكن وصفه بأنه قد يكون مبالغا فيه وفق المزاعم الغربية. فحلف الناتو تاريخياً ومنذ تأسيسه، في شباط 1945، كان يبحث عن ذرائع لتوسيع نفوذه ودوله لامتلاك قوة عسكرية متراكمة بقيادة أميركية، وتوسيع وجوده في أوروبا وزيادة قربه من الحدود الروسية يتطلب عضوية أوكرانيا، وهو ما سيسمح له ضم المزيد من الدول السوفييتية السابقة، ما سيخنق روسيا ويقطع طريق وصولها باتجاه أوروبا والمتوسط، فالادعاء بأن الحلف الأطلسي هو “دفاعي” فقط مجرد واجهة لتوسيع النفوذ والهيمنة.
وسواء تطور الوضع العسكري أو اقتصر على ما حصل مؤخراً، فهناك إدارة أميركية جديدة وضعت أولوية استراتيجية لها في السياسة الخارجية تتمثل فيما أسمته بتعزيز “تحالف ديمقراطي غربي” لمواجهة صعود نفوذ الصين وروسيا، وهو مؤشر ثان لهذا الصراع الجيو استراتيجي، حيث لا يشكل صراع النفوذ تهديداً فقط لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، ولا يغير شكل وطبيعة النظام الدولي، ولكن لأن بناء التحالفات القوية وتعزيز القدرات الذاتية يتطلب خلق “عدو” ما،. حتى لو لم يكن ذلك العدو بالخطر الذي يتم تصويره، وهو ما سعى الناتو إليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عندما ربط التطرف بالإسلام، وكذلك من خلال العنصرية التي مارسها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما نسب جائحة كورونا الجنسية الصينية، وقبله الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي قسم العالم لدول الشر والخير، وما يروج له اليوم الرئيس الحالي بايدن، بأن موسكو تمثل عاملا مهددا للأمن الأوروبي.
فيما يخص المسألة الأوكرانية، لم تبدأ حرب النفوذ تلك بحشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية هذا العام، وإنما تعود إلى نهاية العقد الأول من القرن الحالي وتحديداً مع ما سمي بـ “الثورات الملونة” في دول أوروبا الشرقية والوسطى. وكان الهدف منها تغيير أنظمة الحكم الموالية لروسيا مع بدء استشعار الولايات المتحدة الأمريكية بعودة نهوض الدب الروسي.
فما سمي “ثورة برتقالية” في أوكرانيا أفرز حكماً “غربياً” تماماً يزعج روسيا ويعرض مصالحها الحيوية للخطر، بعدما استطاعت موسكو وضع مرتكزات نهوضها العالمي بعد تفشي الضعف والخضوع للغرب أثناء حكم الرئيس يلتسين، وهو ما يدفع القيادة الروسية الحالية بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين للتمسك بحق روسيا في استعادة قوتها التي شجع الغرب قوى محلية على إضعافها.
وبينما يعتبر استمرار عملية التحول في مناطق صراع النفوذ خلال الحرب الباردة من قبل أميركا، وتحديداً أوروبا الوسطى والشرقية هدفاً استراتيجياً نتيجة خشية الولايات المتحدة أن يؤدي نمو القوة الروسية لاستعادة نفوذها قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي تجاهل واضح من قبل أصحاب الرؤية الليبرالية أن تصعيد الصراع مع روسية قد يدفع – على عكس ما ترغب به واشنطن – نحو اتجاه تعزيز تحالف روسي/صيني قوي يشكل تهديداً للمصالح الأميركية ويخلق الانقسام داخل أوروبا. فالصين حتى الآن هي المستفيد الأكبر من ذلك الصراع بشأن أوكرانيا وحرب النفوذ بين روسيا والغرب في أوروبا. وقد تبدو تلك الاستفادة اقتصادية بالأساس، حيث شهدت زيارة الرئيس الروسي لبكين مع افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية التوقيع على اتفاقات ضخمة بين موسكو وبكين أهمها في قطاع الطاقة لتستفيد الصين من حاجة روسيا لايجاد بدائل لصادراتها من النفط والغاز فتحصل على عقود لسنوات قادمة توفر لها الطاقة اللازمة لاستمرار نموها الاقتصادي. وإذا كان ذلك يوفر لموسكو المليارات من عائد الصادرات فإنه يوفر لبكين فرصة لتقليل اعتمادها على واردات الطاقة من مصادر تابعة وغير مستقلة سياسياً كالخليج، ويزيد من توجه الدولتين نحو توسيع تكتلهما وتحالفاتهما مع الدول المناوئة لواشنطن وهو ما ينعكس على إفادة سياسية تتمثل في استقطاب القوى الفاعلة في العالم لتعزيز مواقفهما.