رحيل عاشق حلب
عبد الكريم النّاعم
لكأنّ أحد أقداري أن أكتب عن الراحلين، وما أصعب ذلك، لأنّ الإنسان في ذلك يستحضر المنتقى من الذكريات، وكم يترك ذلك في النفس من أصداء مترامية، ومن حساسية مؤلمة، لأنه فقْد لا لقاء بعده.
لا أزعم أنّ الراحل وليد إخلاصي كان ينفرد في عشقه لحلب، فمحبّوها من أهلها، ومن غير أهلها كثيرون، ولكنّ أبا خالد كان متيّماً، ففي حلب ولد وعاش، وكان واحداً من أعلامها.
تعرّفتُ عليه لأول مرّة في غرفة الشاعر الكبير محمد عمران، في مقرّ صحيفة “الثورة” القديم، وكان فارساً من فرسان “ملحق الثورة الثقافي”، والتقيتُه فيما بعد عدّة مرات في نشاطات في حمص، وفي غيرها، ولم تتجاوز علاقتنا حدّ الاستلطاف والتقدير.
كان مميَّز الحضور، بقامته الفارعة، وبأناقته الطافحة، وبحيويته، وبأسلوبه في الحوار مع الآخرين، حتى لكأنّه قد اختزن الكثير في داخله من سحر حلب، ولاسيّما أسواقها وأحياءها القديمة، تلك المساحة التي شغلت الكثير من وقته، ومن وقت أدباء حلبيين آخرين في المناداة بضرورة الحفاظ على الهوية المعمارية، ونجحوا في ذلك أيّما نجاح، وكان خوفهم أن يحلّ بحلب ما حلّ في مناطق واسعة من دمشق القديمة، وهذا ما ترك آثاره العميقة في نفسه حين سيطر الدواعش على شرقيّ حلب، وأحرقوا ما أحرقوا، ودمّروا ما دمّروا، وكان في أهدافهم تدمير الهويّة الوطنيّة، وقد عُرضت المليارات على الدواعش من قبل الوطنيين الحلبيين على أن يتركوا تلك الأسواق دون أذى، ولكنهم رفضوا لأنّ الأوامر بتدمير العميق من هويتها كان هدفاً من أهدافهم، وصمت بعدها صوت أبي خالد، فلم نعد نسمع عنه شيئاً، لكأن حضوره كان مقروناً بحضور ما دمّروه، وما أدري ما إذا كان قد كتب شيئاً بهذا الخصوص، وتلك مسؤولية الجهات المعنيّة للحصول عليه إذا كان موجوداً، لأنّه شاهد تلك اللحظة المخيفة، وأرجّح أن يكون قد كتب في ذلك، رغم الحرائق التي أحاطت بحلب على يد الدواعش لم يغادر مدينته التي أحبّ، وفيما أعرف أنّ معظم أدبائها لم يغادروها رغم احتراق أحيائهم وبيوتهم، ولست على معرفة فيما إذا كان قد غادرها البعض، وأيّاً تكن الأسباب، فهو إن حدث، لا يخلو من عقوق.
ذات نشاط للمكتب الفرعي لاتحاد الكتّاب العرب في حمص، وكنتُ أميناً للسر، وكان ذلك في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن انتهت الأمسية، غادر الجميع وبقي أبو خالد وزوجته، فأحسست بالاختناق، ولم يكن في مخصّصات الاتحاد يومها شيء يُصرف لاستضافة الأدباء، ولحمص في ذاكرته مساحة حميمة، اقتربت منه وسألته: “هل لديك أيّ ارتباط هنا في حمص”، فأجاب بإشراقة وجهه المعهودة: “لا، أبداً، وإذا كنتَ تقبل دعوتي على العشاء فسأكون ممتنّاً”، خجلتُ ممّا سمعت، وقلت له: “بل أنت مدعو وزوجتك لبيتي”، وهاتفتُ زوجتي لتُعدّ لنا ما يتيسّر، وفي الغرفة القديمة المتواضعة، إلاّ عن الترحيب والحب، جلسنا وتناولنا شرابنا وطعامنا، وكان في المسجلة شريط عزف على القانون للدكتور سعد الله آغا القلعة، وهو ابن مدينته، فلفت انتباهه عذوبة العزف ورقّته، وروحانيته، فسألني: “من هذا العازف”؟ فذكرت اسمه، فأشرق أكثر وقال: “هذا صديق أخي” وتحدّث عنه حديث العارف.
تمتّنت العلاقة أكثر حين انتخب عضواً لمجلس الشعب لإتمام مدّة شاغر، فكان يسهر يوميّاً في “دمّر” مع المرحوم أخي خضر، حيث يسكنان.
كتب الراحل القصّة، والرواية، والبحث، والمقالات، وتُرجمت بعض أعماله لأكثر من لغة أجنبيّة.
ها هم يرحلون واحداً إثر آخر، وتلك سنّة الله في خلقه، وتبقى الأرض، أرض الوطن.
aaalnaem@gmail.com