الأزمة الأوكرانية.. بوادر ولادة نظام عالمي جديد
د. معن منيف سليمان
شكّلت الأزمة الأوكرانية بوادر ولادة نظام عالمي جديد، فقد تبلورت التحالفات على جانبي جبهة النزاع بوضوح: الولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة، وروسيا والصين وحلفاؤهما من جهة أخرى. وأرست قواعد جديدة للنظام الدولي الجديد لن تكون فيها واشنطن قوة منفردة بعد التخلّص من الأحادية القطبية الأمريكية ليبزغ فجر تعدّدية يمكن أن تحقّق فيها روسيا تقدماً في ساحات أخرى مكشوفة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
إن منطقة الشرق الأوسط ومحيطها التي تشمل أفغانستان وإثيوبيا تواجه لحظة تاريخية، تميّزها حالة من التراجع الغربي والأمريكي عن دفّة القيادة والسيطرة التي عاشتها منذ نهاية الحرب الباردة، مقابل صعود الصين لمرتبة الدولة العظمى، وعودة قوية من جهة روسيا. فقد مضى حوالي ثلاثة عقود على النظام العالمي الذي تلا انتهاء الحرب الباردة، وقام على الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فترى هذه القوى الصاعدة أنه آن الأوان لإعادة النظر بهذا النظام وإقامة نظام متعدّد الأقطاب، ذلك أن انتصار أمريكا في الحرب الباردة بات من الماضي.
ويرى باحثون أن هناك ما يشبه الإجماع حول كون المرحلة التي نمرّ بها في العلاقات الدولية مرحلة انتقالية، تعاد فيها صياغة أوزان القوى الدولية والعلاقات فيما بينها وتوزيع الحصص في المصالح والثروات. ففي البيان الأخير الذي وقّع عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ على هامش الدورة الأولمبية للألعاب الشتوية، ما يؤكّد على عمق التحول في النظام العالمي.
كانت لغة البيان الروسي الصيني توحي بكل وضوح بأن كلاً من الصين وروسيا تؤسّسان بشكل حقيقي لنظام عالمي جديد، خاصة وأن البيان بدأ بالحديث عن الديمقراطيات وانتقاد الرؤية الغربية في هذا الشأن، وصولاً إلى حروب وعسكرة الفضاء، وضرورة إحياء منظومة الأمم المتحدة وعدم التلاعب بها.
ودعا الطرفان خلال لقائهما في بكين إلى “حقبة جديدة” في العلاقات الدولية ووضع حدّ للسيطرة الأمريكية، معلنين شراكة “بلا حدود” بين الجانبين، وجاء في البيان المشترك أن موسكو وبكين “تعارضان أي توسيع للحلف الأطلسي مستقبلاً”، وقد دعمت بكين مطلب روسيا بضرورة عدم ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وأبدت روسيا دعمها لموقف بيجين بأن تايوان جزء لا ينفصل من الصين.
وهكذا أصبحت الصين مؤيّدة لروسيا في موقفها الذي تبناه الرئيس بوتين في أوكرانيا، الأمر الذي تبدي فيه الصين وروسيا تحديهما لميزان القوة في النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة.
إن المصالح المشتركة توحّد البلدين أكثر في لحظة يتصرف فيها كلاهما على أساس أن النظام العالمي يعاد تشكيله بسبب التراجع الأمريكي، ما يعطي فرصةً لموسكو وبكين لاختبار الغرب. ويبدو أن الصين وروسيا تريان مصلحة مشتركة في التحرك الروسي ضدّ أوكرانيا يختبر فيه مدى قوة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
لقد أظهرت الأزمة الأوكرانية محوراً صينياً – روسياً في مواجهة تحالف غربي، إذ أن الرئيس بوتين كتب فصل الخطاب وأعلن عن انتهاء صلاحية الأحادية القطبية، من خلال استعادة الجغرافية السياسية لبلاده، وأعلن عن ولادة نظام عالمي جديد لن تكون فيه واشنطن قوة منفردة.
وقد فعلها الرئيس بوتين، وبذلك فإن العالم سيشهد تحولات ملموسة في النظام الدولي تُنذر بولادة مشهد جديد للنظام مستقبلاً على المدى القريب أو الأبعد، فالتحولات الحاصلة في موازين القوى إقليمياً ودولياً مؤشر قويّ على ما ستؤول إليه المرحلة القادمة من تغييرات. وذلك من حيث صعود دول جديدة في المجالات الاقتصادية ووصولها إلى منافسة أكبر، ومن جهة أخرى دخول دول جديدة ميدان التسلّح النووي والتسابق فيه، هذا فضلاً عن محاولات دول أخرى بلورة وصياغة دور إقليمي جديد ومهمّ يسمح لها بفرض سيطرة أوسع على مساحات جديدة، ويؤمّن لها مصادر أكثر وأسواقاً جديدة تلزمها في استمرارية تصاعدها وتقوية مكانتها إقليمياً ودولياً.
بدون شك، ستتغيّر الخارطة السياسية الغربية، وسلم الأولويات والعلاقات الدولية، وستكون الحرب أكبر اختبار يعصف بالسيطرة الأمريكية على القيادة الغربية، ويظهر عجزها عن تطبيق النظام العالمي الجديد الذي وعدت به. والآن أصبح العالم على وشك ولادة رمزية لنظام عالمي جديد على أنقاض نظام سيطرة القطب الأمريكي الوحيد الذي كان قد وُلد لحظة تفكّك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، واستمرّ لثلاثة عقود.