أوكرانيا… لعبة الولايات المتحدة في وجه روسيا حلقة جديدة لزعزعة العالم اقتصادياً والدول العربية ليست بمنأى عن تداعياتها
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
لا شك أن الأزمة الأوكرانية سيكون لها عواقب كبيرة على العالم أجمع، والدول العربية لن تسلم من هذه الأزمة، وخاصةً لجهة أزمة الغذاء تحديداً، والتي ستكون حلقة في اتمام الدائرة التي خلقتها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من خلال سياساتهما المالية غير المسؤولة اللذان شكلا خللاً هائلاً في الأسواق العالمية والعربية، والتي كان من أهم عواقبها إرتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم باضطراد، بما في ذلك أسعار البنزين والغاز والمواد الغذائية. وفي ظل هذا السيناريو فإن العالم يقترب من التضخم المفرط وانهيار الاقتصاد العالمي.
كانت المصانع الكيماوية التي تنتج الأسمدة الزراعية قد بدأت فعلياً بالإغلاق الخريف الماضي في أوروبا بسبب ارتفاع أسعار الغاز، وهو ما سيؤدي، بطبيعة الحال، إلى نقص في الأسمدة هذا الربيع، وبالتالي إلى ارتفاع أسعارها، وإفلاس عدد من منتجي المواد الغذائية، الأمر الذي سيخفض الإنتاج العالمي من الحبوب والمواد الغذائية الأخرى انخفاضاً حاداً هذا العام.
الدول العربية على أعتاب الكارثة
إن العقوبات التي اتخذها الغرب قد تعرقل تجارة روسيا مع دول ثالثة، حيث تصدر روسيا 70% من قمحها إلى الدول العربية، ومن المرجح أن تواجه حكومات الدول العربية ضغوطاً من الولايات المتحدة الأمريكية لوقف التجارة مع روسيا. كما أن التضخم العالمي وتشديد السياسة المالية من قبل الغرب سيجعل القروض أكثر تكلفة وأقل إتاحة، ما يعني أن عدداً من الدول العربية سوف تواجه أزمات في العملة والديون، وبالتالي فإن أسعار المواد الغذائية في الدول العربية يمكن أن ترتفع بعدة أضعاف.
تعتبر الدول العربية غير النفطية من بين أكثر الدول ضعفاً اقتصادياً في العالم، وما دامت العملات العالمية آخذة في الانخفاض بسرعة، حيث بلغ التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية زهاء 7.5% في شهر كانون الثاني الماضي، وفي أوروبا 5.1%، وتستمر عجلته في التسارع، وبالنظر إلى الأزمة الأوكرانية، فسوف تتجاوز تلك النسبة 10% في الربيع المقبل.
وما دام الغرب فرض عقوبات على روسيا، بالإضافة إلى أزمة الغذاء في العالم، سوف تكون هناك كذلك أزمة طاقة سوف يزداد، على أثرها، التضخم في الغرب عدة أضعاف. وبينما تتجه أنظار العالم صوب منطقة الحدود الأوكرانية الروسية، تنذر الأزمة المتصاعدة بعواقب تتجاوز القارة الأوروبية، ليشعر بها الناس على بعد آلاف الأميال، تحديداً في المنطقة العربية.
منذ بداية الحديث عن الرد الغربي، برزت العقوبات الاقتصادية كأداة رئيسية في ترسانة الغرب للتعامل مع روسيا، وقد طُرح ملف الطاقة، وتحديداً إمدادات النفط والغاز الروسي، كورقة مساومة أساسية في هذا الإطار. لكن هذا الملف يشكل سيفاً ذو حدين، فمن جهة يمثل فرض عقوبات على قطاع النفط والغاز الروسي ضربة لموسكو التي تشكل صادراتها من النفط والغاز إلى أوروبا رافداً رئيسياً لاقتصادها. ومن جهة أخرى، قد تعني هذه الخطوة أن يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقف حرج نظراً لاعتماده على الغاز والنفط الروسي بشكل كبير.
لقد تركز كثير من الجدل حول طبيعة العقوبات الأوروبية على قطاع الطاقة الروسي وخاصةً خط الغاز “نورد ستريم 2”. وقد اقتصر الرد الألماني في الوقت الحاضر على تعليق إصدار ترخيص لخط “نورد ستريم 2” وهو ما يعني أن الإمدادات الحالية للنفط والغاز الروسي إلى أوروبا لن تتأثر في الوقت الراهن، نظراً لأن الخط لم يكن قد دخل في الخدمة بعد، لكن الخطوة الألمانية ستخلق مخاوف من تبعات التوتر مع روسيا على الإمدادات المستقبلية من الغاز والنفط الروسي لأوروبا، في حال توسع العقوبات لتشمل قطاع الطاقة الروسي بشكل أكبر، أو تفاقم التوتر إلى الدرجة التي تتخذ فيها روسيا خطوة إيقاف إمداد أوروبا بالغاز والنفط.
ينظر الأوروبيون وحليفهم الأمريكي للدول العربية المنتجة للغاز والنفط بوصفها مصدراً يمكن أن يعوض بعض النقص في إمدادات الغاز والنفط إلى أوروبا، كما أن يلعب دوراً في استيعاب الاضطرابات التي قد تصيب السوق العالمي للنفط نتيجة للتوترات.
لكن المفاوضات التي أجرتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع الدول العربية المنتجة للغاز والنفط وغيرها من كبار منتجي الغاز الطبيعي في العالم في كانون الثاني الماضي، لا تعدو كونها مساع لـ “تخفيف حدة الضرر”. إذ تؤكد جميع المعطيات أن صادرات الولايات المتحدة والدول العربية وأستراليا لا تكفي لسد حجم صادرات روسيا من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، خاصة في ضوء الالتزام بعقود مع المستهلكين في آسيا، فضلاً عن وجود صعوبات لوجستية في تصدير الغاز المسال إلى بعض الدول الأوروبية.
معادلة النفط والغذاء
وبينما ينظر البعض إلى الارتفاع المتوقع في أسعار النفط، من الضروري أخذ الأثر الذي سيتركه هذا الارتفاع على كلفة إنتاج المواد الغذائية عالمياً في عين الاعتبار، خاصةً أن الدول العربية تستودر أكثر من 120 مليار طن من المواد الغذائية غالبيتها يأتي من أمريكا وهذا سيزيد كلفة الاستيراد على هذه الدول، ما ينعكس سلباً على حجم العجز في ميزانها التجاري، وهو الأثر الذي سيكون مضاعفاً على الدول العربية غير المصدرة للنفط.
وبغض النظر عن موقفها من التوتر بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، تجد كثير من الدول العربية نفسها أمام تحد خطير يتمثل في الأثر الذي قد يتركه تصاعد حدة الصراع في أوكرانيا على إمدادات المنطقة من المواد الزراعية، وبخاصة القمح، وعلى أسعار المواد الغذائية على مستوى العالم.
وترى كيلي بيتيلو ، محللة شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أنه سيكون للتصعيد في أوكرانيا عواقب على الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وما يفاقم الوضع سوءاً، بحسب بيتيلو، هو الارتفاع المتوقع في الأسعار نتيجة للأزمة، والذي يأتي في وقت وصلت فيه أسعار المواد الغذائية إلى مستويات تاريخية مرتفعة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي ارتفعت فيها الأسعار خلال العامين الماضيين. ماذا عن البدائل؟ تؤكد، بيتيلو أنه من الناحية النظرية، هناك بدائل مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ولكنها بدائل باهظة الثمن، فضلاً عن أنه يمكن للمرء أن يجادل بأن فقدان الإمدادات الروسية يمكن أن يزيد من نفوذ الولايات المتحدة على واردات الغذاء في المنطقة. كما تشير إلى أنه حتى في حال توفر المال اللازم لاستيراد القمح من هذه الدول بكلفة أعلى، لا تزال هناك مشكلة فيما يتعلق بامتلاك البنية التحتية المناسبة والإعداد لجلب هذه الإمدادات، إذ تعتمد معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على البحر الأسود كطريقة لدخول السلع الزراعية، وهو ما يعني أنه سيتعين على هذه البلدان استيراد هذه السلع عبر طرق بديلة.
ورغم بعدها الجغرافي تفيد قراءة في خارطة المصالح بأن تأثيرات الأزمة وتداعياتها في منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط يمكن أن تكون أكبر بكثير مما يتوقع، بسبب ارتباط تلك المصالح بمجالات حيوية في حياة الناس وفي علاقات دول المنطقة من الناحية الاستراتيجية. لكن أوجه تأثير الأزمة على دول المنطقة ستكون مرتبطة إلى حد كبير بطبيعة السيناريوهات التي يمكن أن تتطور وفقها الأزمة الحالية. بيد أن ما يلفت النظر في خضم تطورات الأزمة الأوكرانية، ظهور أبعاد جديدة في المواجهة بين الغرب وروسيا والتي تعتبر الأشد من نوعها منذ سقوط جدار برلين قبل ما يزيد عن ثلاثين عاماً. فرغم هيمنة الحضور العسكري بمقوماته التقليدية، إلا أن خبراء يرصدون ظهور عناصر جديدة في الصراع، وهي مستمدة من التطورات التكنولوجية والسيبرانية ونوعية جديدة من أدوات الصراع لا تقتصر على الأسلحة التقليدية والإستراتيجية. وبحكم تأثيرها النوعي في طبيعة الصراع فهي تضفي على المواجهة هذه المرة طابعاً غير تقليدي يختلف عما شهده العالم في العقود الماضية سواء في ظل الحرب الباردة أو بعدها، وهو ما يطلق عليه علماء الاستراتيجيات، بأجيال جديدة للحروب والصراعات.
ومن هنا فإن تداعيات الأزمة الأوكرانية على دول منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط ليست مرتبطة فقط بطبيعة المصالح التي تربط دول المنطقتين بأطراف الصراع أي روسيا وأوكرانيا ثم الولايات المتحدة وأوروبا، وهي مصالح متحركة ليس فقط بحكم التفاعل والتغير في العلاقات، بل أيضاً بفعل الطبيعة المستجدة والمتطورة لأدوات التأثير في تلك العلاقات.
تداعيات الأزمة
ترى بعض مراكز صنع القرار الأمريكي في تطور العلاقات الأمنية والاقتصادية بين روسيا والصين من جهة، وعدد من دول الشرق الأوسط من جهة أخرى، تحدياً روسياً وصينياً لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وخلال عقود تحملت الكثير من دول منطقة الشرق الأوسط تبعات التنافس على المصالح بين الدول الكبرى. واليوم تعيش دول في المنطقة مخاوف توسع الصراع، واحتمالات أن تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وأبعد من الطاقة، يمكن لمنطقة الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا أن تتأثر بتداعيات الحرب في مجال تجارة المواد الزراعية وإنتاج الحبوب في دول منطقة البحر الأسود.
لذلك يحذر بعض المحللين من عدم الاستهانة بتداعيات الأزمة، وتكاليف السلام غير المستقر على الاقتصاد العالمي. وحتى إن تراجعت احتمالات المواجهة الكاملة بين أطراف الأزمة، فالاقتصاد الدولي في حالة من عدم الاستقرار، ما يتطلب عدم التقليل من خطورة الصراع الروسي – الغربي على جهود شفاء الاقتصاد الدولي من وعكته الصحية.
يرى أوين ريث الباحث الاقتصادي أن الأزمة أسهمت بالفعل في ارتفاع أسعار النفط والغاز، فضلاً عن المعادن الرئيسة المستخدمة في كل شيء تقريباً، ويعتقد أوين ريث أن الأزمة إذا أفلتت من عقالها فستكون لها آثار ضخمة في الأسواق الدولية، وقد تؤدي إلى استقطاب اقتصادي يحدث تغييرات جذرية في هياكل التجارة الدولية.
وعليه قد يتأثر الإنتاج العالمي للمواد الغذائية، لكن مع الإشكالات الراهنة في سلاسل التوريد، فإن أسعار الغذاء سترتفع، وهو بالفعل ما تم تسجيله منذ ارتفاع حدة الأزمة، حيث ارتفعت أسعار القمح لتبلغ أعلى مستوى منذ أكثر من 9 سنوات، ما أثار مخاوف من تأثر الإمدادات العالمية. كما قفزت العقود الآجلة للقمح لشهر آيار في مجلس شيكاغو للتجارة 5.7 بالمائة إلى نحو 9.34 دولار للبوشل وهو أعلى سعر منذ تموز 2021، بحسب وكالة رويترز.
وعلى الرغم من بعد منطقة الاشتباكات الروسية الأوكرانية، إلا أن العديد من الدول العربية تجد نفسها أمام تحد صعب يتمثل في تأثير الصراع على إمدادات المنطقة من القمح والطاقة. لكن من المهم الحديث عن سيناريوهات الأيام المقبلة، حيث يعيش العالم أمام مسارات متعددة والجميع في مرحلة الترقب والانتظار لما هو قادم، خاصةً أنه سيكون هناك تأثيرات على الشرق الأوسط، وارتباكات وتقلبات اقتصادية متوقعة خلال الفترة المقبلة، وهذه التقلبات الاقتصادية والأوضاع غير المستقرة ستؤثر على الأمن الغذائي للجميع.
لذلك إن حزمة العقوبات غير المسبوقة التي تطبق على روسيا، سيكون لها تأثير على العلاقات بالكثير من دول المنطقة، خاصة في الشرق الأوسط ممن تربطها علاقات اقتصادية وتجارية مع روسيا، وهو ما سوف يكون له تأثير على احتياطيات القمح في العديد من دول المنطقة. وعليه فإن الأيام المقبلة سوف تشهد ارتفاعاً في أسعار بعض القطاعات يتجاوز 12% منها الحديد، والفحم، والحبوب الغذائية من ذرة وقمح، فضلاً عن زيت الطعام، وسيكون هناك اضطرابات في التوريدات، لذلك الجميع الآن ينتظر ما الذي سوف تسفر عنه الأيام القليلة المقبلة، لأن ما يحدث الآن سوف يسبب الكثير من التغيرات وخرائط التحالف السياسية في المنطقة خلال الفترة المقبلة.