مجلة البعث الأسبوعية

اقتصاديات العالم تترقب مجريات الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا.. العقوبات سلاح ذو حدين ينبئ بنظام اقتصادي عالمي جديد

“البعث الأسبوعية” – حسن النابلسي

سرعان ما استشعرت الأسواق العالمية تداعيات الأزمة الأوكرانية حتى من قبل البدء بالعمليات العسكرية، لتتجاوز أسعار النفط حاجز الـ95 دولار للبرميل الواحد وتتذبذب لاحقاً بين هذا الحاجز وحاجز الـ100 وأحياناً تزيد عن ذلك، إذ ارتفع–لحظة كتابة هذا التقرير إلى أكثر من 5% في تداولات اليوم السابق، ليقترب سعره يقترب من 103 دولارللبرميل..!.

والحال كذلك بالنسبة للذهب الذي قفز إلى ما بعد الـ2000 دولار للأونصة لتعاود النزول دونه حسب ما يتواتر من أخبار الميدان العسكرية، متسلحاً بقوته كملاذ آمن في الأزمات كما حدث بداية أزمة كورونا.!.

ولم تكن العملات الرقمية بمنأى عن هذا الحدث العالمي، إذ تخطت عملة بيتكوين الرقمية حاجز الـ41 ألف دولار في علامة جديدة على عودة معنويات الشراء بعد عمليات البيع عبر الأسواق المعرضة للمخاطر.

 

تعقيد اقتصادي

هذا هو الواقع العام للأسواق العالمية، فأغلب اقتصاديات العالم – إن لم يكن كلها – تترقب مجريات الحرب الروسية الأوكرانية، وتجتهد لجهة تأمين مستلزماتها الأساسية من حوامل طاقة وغذاء، فالكل سيتأثر بما فيها من فرض للعقوبات على روسيا، وإذا ما أردنا الخوض ببعض تفاصيل تداعيات هذه الأزمة على الاقتصاد السوري أولاً، يبرز لدينا تصريحات إعلامية للمستشار في رئاسة الحكومة، د. زياد أيوب عربش، يؤكد فيها أن الأزمة الأوكرانية تحمل تأثيرات واسعة على الاقتصاد العالمي ومن ضمنه سورية، وستؤدي لتضرر قطاع الكهرباء وتوريدات القمح بشكل أساسي، ولارتفاع في أسعار معظم السلع، وستطال آثارها – بحسب عربش – قطاعات النقل والتأمين والإمداد الدولي وأسواق المال، بالإضافة إلى أسواق المواد الأولية والسلع الاستراتيجية، ومنها القمح ومشتقات الطاقة وغيرها، مبيناً أن الارتفاع الكبير في تكاليف التوريد المتوقع حدوثه قد يتسبب بضعف قدرة توريد مشتقات الطاقة، ومنها الفيول لإنتاج الكهرباء، ما قد ينعكس سلباً على واقعها.

وأوضح عربش أن الأزمة الأوكرانية فرضت تعقيداً اقتصادياً إضافياً في المشهد العالمي المعقّد أصلاً منذ عودة النشاط الاقتصادي والتأقلم مع فيروس كورونا، مضيفاً أن ارتفاع سعر برميل النفط المستمر منذ نهاية العام الماضي كان له وقع سلبي على كافة الدول المستوردة لمشتقات الطاقة والسلع الأولية، وسيؤثر على مجمل الدول غير المنتجة لتلك السلع، وسيزداد الأمر سوء مع تجاوز عتبة خام برنت الـ 105 دولارات أميركية الخميس ليسجّل أرقاماً قياسية لم يعرفها منذ عام 2014.وتوقع عربش أن يستمر الارتفاع، خاصة إذا طال أمد الأزمة الأوكرانية – الروسية. ولن يكون مستبعداً أن يصل سعر النفط الخام إلى 130 – 140 دولار أمريكي خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.

 

شدّ أسعار

وأوضح عربش أن النفط الذي يدخل في تركيب 500 ألف سلعة، سيشد أسعار العديد من السلع والخدمات نحو الارتفاع عالمياً ومحلياً، وتتضمن -بحسب عربش-، السلع الاستراتيجية ومستلزمات الإنتاج وصولاً إلى منتجات البتروكيماويات ومشتقات الطاقة، ومواد البناء والبلاستيكيات والأحذية والألبسة وغيرها العديد من السلع.منوهاً أنه من المفترض أن تحد الإجراءات الحكومية من تأثيرات الأزمة وتداعياتها، رغم أن الاقتصاد السوري أساساً يعاني من قلة توفر القطع الأجنبي، حيث من المتوقع اتخاذ المزيد من الإجراءات إذا تطلب الأمر.

 

قفزات هائلة

أما فيما يتعلق بتداعيات هذه الأزمة على أطراف الصراع ومدى تضررها منه، وتحديداً لجهة ما ستتمخض عنها العقوبات المفروضة على روسيا، فكأننا أمام مخاض لولادة نظام عالمي جديد قد تفرضه نتائج هذه الحرب، وسرعان ما يطفو على المشهد توريدات الغاز الروسي إلى أوروبا والتي تشكل نسبة 40% من احتياجات الغاز في القارة العجوز، فعلى وقع تطور العملية العسكرية قفزت العقود الآجلة للغاز بنسبة 34% إلى 1454 دولارا لكل ألف متر مكعب من الغاز، وقد جاء هذا الارتفاع بعد أن فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى جانب دول أخرى عقوبات على روسيا، وذلك بعد أن بدأت موسكو عملية عسكرية أمنية خاصة في أوكرانيا.

 

بدائل

وعلى صعيد متصل، أفادت بيانات بأن بولندا زادت بداية هذا الأسبوع بشكل حاد ضخ الغاز الطبيعي إلى مرافق التخزين تحت الأرض، وذلك على خلفية استئناف الضخ المباشر عبر خط أنابيب الغاز يامال – أوروبا (مسار لضخ الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا عبر بيلاروس وبولندا)، لتجد أوروبا نفسها على محك إيجاد بدائل لتعويض النقص المحتمل من الغاز، إذ تفيد بعض التقارير الإعلامية أن الاتحاد الأوروبي تحدث مع الولايات المتحدة وقطر ومصر وأذربيجان ونيجيريا وكوريا الجنوبية عن زيادة شحنات الغاز والغاز الطبيعي المسال، إما من خلال شحنات إضافية أو مبادلات عقود، بالتزامن مع قلق أوروبي توقف تدفق الغاز – إما كضرر جانبي من الحرب أو كقرار تكتيك تفاوضي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين – من أن الأسعار، المرتفعة بالفعل في السوق العالمية المتغيرة باستمرار، قد ترتفع بشكل كبير، ويمكن أن يسفر ذلك عن خسائر بالمليارات من الاستثمارات وتعريض عقود النفط والغاز للخطر، خاصة بالنسبة للدول التي تعتمد على الغاز الروسي أكثر من غيرها، مثل ألمانيا وإيطاليا.

 

عصا غليظة

تصدر نظام سويفت – كنظام مالي عالمي – العقوبات الغربية المطلوب فرضها على موسكو، ليلوح الغرب به كعصا غليظة من شأنها حظر روسيا من التعامل عبر هذا النظام الذي يُستخدم من قبل الآلاف من البنوك، والتأثير على شبكة البنوك الروسية وقدرة روسيا على الوصول للمال، وفي الوقت الذي قادت بريطانيا الدعوة لوقف عمل نظام سويفت في روسيا، قال بن والاس وزير الدفاع البريطاني: “للأسف لا نملك التحكم في نظام سويفت بمفردنا. وقرار كهذا لا يؤخذ بصورة فردية”.

 

مخاوف

لكن في المقابل لم تخف العديد من الحكومات خشيتها من تأثير هذه العقوبة على اقتصادياتها وشركاتها، فعلى سبيل المثال شراء الغاز والبترول من روسيا سيتأثر، ونُقل عن رئيس اللجنة الشرقية للاقتصاد الألماني، أوليفر هيرميس، أنّ فصل روسيا عن نظام “سويفت” للتعاملات المصرفية “سيخلق مشاكل كبيرة لاقتصادات الغرب، وسيكبده مليارات الدولارات”. وأضاف هيرميس أنّه “في حال ذلك، فإنّ موسكو وبكين ستشددان عقوباتهما الاقتصادية ضد الغرب، ونتيجة مثل هذا التطور في الأحداث، فإنّ الغرب لن يحصل على أي مكاسب”. وفي ذات السياق اعتبركل من وزير المالية الفرنسي، برونو لو ميير، ورئيس وزراء هولندا، مارك روتيه، أن خيار حظر روسيا سيتم اللجوء إليه في حالة الضرورة القصوى.

 

رد موسكو

لم يتأخر رد موسكو لتكشف عن امتلاكها لنظام بديل لنظام سويفت، الذي تهدد الدول الغربية بمنع روسيا من استخدامه إثر تدخلها العسكري في أوكرانيا، إذ قال حاكم بنك روسيا المركزي: “لدينا نظام يمكنه استبدال نظام سويفت داخليا، ويمكن للمتعاملين داخليا وخارجيا استعماله، مؤكداً أن البنية التحتية المالية الروسية ستعمل بدون أعطال.

وفي خطوة لضمان استقرار الوضع المالي في روسيا، أعلن البنك المركزي ووزارة المالية في روسيا مجموعة من الإجراءات التاريخية غير المسبوقة لتحقيق الاستقرار المالي في البلاد، في ظل العقوبات الغربية الشديدة، يتصدرها رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى مستوى 20% سنويا، وهو الأول منذ 2013 (بدء تسجيل البيانات). وأوضح المركزي الروسي أن هذا القرار جاء لدعم العملة الروسية الروبل وتوفير الاستقرار المالي في روسيا وحماية ودائع المواطنين الروس، وشدد على أن قرار رفع الفائدة سيساعد في الحفاظ على الاستقرار المالي واستقرار الأسعار وحماية مدخرات المواطنين من التآكل. وألمح المركزي الروسي إلى احتمال رفع سعر الفائدة الرئيسي مجددا في المستقبل، وقال: “سيتم اتخاذ المزيد من القرارات بشأن سعر الفائدة الرئيسي بناء على تقييم المخاطر من الظروف الخارجية والداخلية ورد فعل الأسواق المالية عليها مع الأخذ في الاعتبار ديناميكيات التضخم الفعلية”. كذلك قرر المركزي الروسي اتخاذ عدد من الإجراءات لزيادة مقدار الضمان المقدم من مؤسسات الائتمان في التعاملات المالية معه.كما قرر فرض حظر مؤقت على تعاملات الأجانب غير المقيمين في روسيا، وقال المركزي: “يفرض حظر مؤقت على الوسطاء اعتبارا من 28 شباط 2022 لتنفيذ معاملات بيع الأوراق المالية نيابة عن الأجانب غير المقيمين في روسيا”. وأضاف: “النظام المصرفي الروسي مستقر، ولديه القدر الكافي من رأس المال والسيولة ليعمل بسلاسة وبدون توقف في أي حالة”. وأكد البنك المركزي أن أموال العملاء في الحسابات المصرفية، متاحة لهم في أي وقت، وتستمر البطاقات المصرفية أيضا في العمل كالمعتاد، مع الإشارة هنا إلى أن البنك المركزي يعتزم تزويد البنوك باستمرار بالسيولة النقدية وغير النقدية بالروبل، وستقوم منظومة إرسال الرسائل المالية، بضمان نقل الرسائل المالية داخل البلد في أي سيناريو كان.

من جهتها ألزمت وزارة المالية الروسية المصدرين في روسيا بييع 80% من عائدات النقد الأجنبي، ويشكل الإجراء دعما كبيرا للعملة الروسية الروبل، ويمكن تبيان أهمية هذا الإجراء إذا ما علمنا أن صادرات روسيا من السلع والخدمات بلغت العام الماضي 494 مليار دولار، ويعني ذلك أن المصدرين سيبيعون حوالي 400 مليار دولار في السوق المحلية على فرض أن القرار طبق على العام 2022 ككل.

 

القريب والبعيد

ولا تقتصر التأثيرات الاقتصادية على الدول المعنية بالصراع، بل تمتد إلى المحيط القريب والبعيد، ولوحظ ارتفاع أسعار سلع مثل الخضار والمواد الغذائية في أوروبا الغربية، وسط توقعات بتأثر قطاع السياحة والطيران والنقل بشكل جوهري، فعلى الرغم من بُعد منطقة الاشتباكات الروسية الأوكرانية عن الشرط الأوسط، إلا أن العديد من الدول العربية تجد نفسها أمام تحد صعب يتمثل في تأثير الصراع على إمدادات المنطقة من القمح.وينبع هذا التحدي من كون روسيا وأوكرانيا تحتلان مركزا هاما في سوق المواد الزراعية في العالم، حيث يبلغ إجمالي حصصهما من صادرات القمح العالمية نحو 25%، وتوزع الغالبية العظمى من صادرات أوكرانيا من الحبوب عبر البحر الأسود.

 

عواقب وخيمة

ويرى محللون أنه التصعيد في أوكرانيا له “عواقب وخيمة للغاية على الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، والتي استحوذت على 40 في المائة من صادرات أوكرانيا من الذرة والقمح عام 2021، وقفزت أسعار القمح إلى أعلى مستوى لها في شهرين، بعد أن أثارت العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بشأن أوكرانيا المخاوف حيال الشحنات المستقبلية للحبوب، خاصة من أوروبا الشرقية التي تستحوذ وحدها على نحو ثلث الشحنات العالمية لهذه السلعة.كما يهدد عدم تصدير القمح من الدول الرئيسية المنتجة باشتعال أسعاره عالمياً ويضع الكثير من الدول العربية في مأزق حاد.