فرامل الديمقراطية الأميركية
د. رحيم هادي الشمخي
كاتب عراقي
يستطيع أي شخص عادي أن يلحظ أن الحديث الأمريكي الصاخب حول الديمقراطية والإصلاح في الشرق الأوسط قد اختلفت وتيرته عما كانت عليه في البداية، فبعد أن كان الإصلاح محور أي نقاش وهدف أية ضغوط علنية أو خفيّة، تصاغ له المبادرات وتعقد المؤتمرات، لم يعد الأمر كذلك، والواضح من خلال قراءة الظاهر من الأمور، أن نوعاً من واجهة (السياسة الأمريكية) قد تمّ، وأن الأسلوب قد اختلف دون أن يعني ذلك أن الملف قد أغلق تماماً.
ولاشك في أن هذا يحبط عدداً كبيراً من المبشّرين الآتين على الرماح الأميركية، كما أن الذين انتظروا (الإصلاح المعلب) القادم رأساً من واشنطن، صار عليهم أن يعيدوا حساباتهم على أساس وطني، ووفقاً لتفاعلات وقواعد الداخل، إذ اختفى (الجلبي) وأمثاله من العراق، ولم تعد الرؤى القادمة من الجانب الآخر من المحيط تصرّ على (سيناريوهات التأليب) والإيهام بقرب موعد سقوط بعض الأنظمة أو تبليع الديمقراطية بالقوة الجبرية، ومع الإيمان الكامل بأن مشروعات ومبادرات الإصلاح التي تبنّتها قوى خارجية عديدة، لم ولن تدفن، خاصة وأن الإصلاح كـ(تحديث) حتمي و(تطوير) ضروري، أصبح هو شعار الدول وقوى مختلفة في المجتمعات العربية فإن بعض الساذجين الذين رتبوا أمورهم وضبطوا مواعيدهم على الأجندة الأميركية يفسّرون تغيير لغة الأميركي بأن هناك صفقات سرية وعلنية قد تمت بين أنظمة المنطقة والولايات المتحدة الأميركية وغيرها من القوى الدولية الفاعلة، مما دفعها لأن تقايض هذا بذاك، وتلك بهذه.
إن مثل هذه المعاني هي ما نسمع بعضه يتردّد في عدد من الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام التي تقتات على الصخب، وهؤلاء في الحالتين طراز من البشر غير مقبول (وطنياً)، مرة لأنهم هللوا للضغوط الخارجية المفتعلة، وتصوروا أن طوابير الناس سوف تقف على الصفين في انتظار (المارينز)، ومرة لأنهم يحالون نقل عدوى إحباطهم إلى الشوارع العربية بترويج نظرية (التواطؤ).
واقع الأمر أن هذا يكشف عن حالة من السطحية المستمرة بلا انقطاع، ويظهر إلى أي مدى يتمّ تجاهل الحقائق، سواء تلك التي يصرخ بها الواقع هنا في الشرق الأوسط، أو تلك التي تعبّر عنها ظواهر مختلفة آتية من الولايات المتحدة، ولابدّ لنا أن نلمس نوعاً من التحول في التفكير في (ديمقراطية الشرق الأوسط)، مثلاً (الفشل في إيجاد حلّ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يحول دون اكتساب الولايات المتحدة الأميركية المصداقية اللازمة للقيام بدور الداعية للديمقراطية في الشرق الأوسط ومستوى الاستياء غير المسبوق من أميركا لن يتقلص حتى تقوم بجهد متوازن في حلّ النزاع، وأن تبرير الحرب على العراق بأنها كانت هدفاً يتوخى تحقيق الديمقراطية أدت إلى نزع مصداقية بعض الديمقراطيين العرب ذوي الميول الغربية، ولقد أنهى الأمر بالعديد من العرب إلى أن يعتبروا الديمقراطية نفسها كلمة ترمز إلى رغبة الولايات المتحدة الأميركية في الهيمنة على المنطقة)، ومن هنا يجب أن نقرأ الحالة الجديدة بعقل واعٍ ويقظ لنجد النتائج الآتية:
1 – هناك أهمية قصوى للرأي العام في صناعة القرار، وهذه الدراسات إن كانت قد تمّ إعدادها لمصلحة معاهد أمريكية، إلا أن نتائجها ذات دلالة لصانع القرار العربي أولاً، وللنخبة العربية ثانياً، وخاصة هذا الفريق الذي “يطنطن” بحديث الديمقراطية على الطريقة الأميركية دونما وعي، ويطالب بتعديلات دستورية وقانونية ضرورية، متجاهلاً المطالب والاحتياجات الاجتماعية.
2 – إن للإصلاح أولويات، وهذه الأولويات لا تنفي بعضها، وإن كانت إحداها تفرض نفسها قبل غيرها، وبالتالي فإن الإصلاح الاقتصادي والإصلاح التعليمي، والإصلاح الثقافي، ضرورة لها الأولوية، وإن كان هذا لا يعني تأجيل الإصلاح السياسي، فإنه كله يكبح أي دعوة للهرولة بإيقاعه.
3 – لقد نجحت الدول العربية المختلفة رغم محاولات بعضها الانشقاق عن الصف في أن ترفض برامج فرض الديمقراطية من الخارج، وحقّقت ما تريد بدعم كامل من النخب الوطنية وقطاعات الرأي العام الواعي، لكن ذلك لا ينفي ضرورة تدعيم هذه الحالة ببناء المناخ الثقافي والسياسي الذي يؤدي إلى ترسيخ صيغة الديمقراطية الوطنية، وبالتالي فإن على القوى المعادية للإصلاح –داخل الدول العربية- ألا تستمر في تصوراتها الخاطئة لأن هذا يهدر فرصاً عظيمة.
4 – أمامنا أيضاً نقطة مهمة تستوجب إحداث نوع من التحول في تفكير صانع القرار الخارجي، ذلك أن بعض الدوائر تؤمن بأن الإصلاح الديمقراطي الداخلي لن يتمّ إلا بفتح الساحة أمام قوى التطرف الديني، وتتصور هذه الدوائر أنه يمكن استيعاب التيارات الملتحفة بالإسلام في عملية الديمقراطية، في ضوء المسألة التركية وهذه مسألة خطيرة وفيها نظر.
5 – كذلك لا يعني هدوء إيقاع الحملة الديمقراطية الغربية أن برامجها قد ألغيت بل إنها قائمة ولها تمويل يتمّ اقتطاعه بصورة مختلفة من مساعدات التنمية، ومن الضروري أن تسعى الجمعيات والمؤسسات الأهلية إلى استثمار تلك الأموال بشكل عملي ومفيد لمجتمعاتها بدلاً من أن تتحول إلى مكاسب بالملايين في جيوب مرتزقة الديمقراطية الذين تسبّب إحباطهم من هدوء الإيقاع الأمريكي والذي أفشل أحلامهم في اقتناص السلطة في أن يتجهوا إلى النهل من هذه الأموال بكل الصور كنوع من المكاسب البديلة.
6 – أخيراً، فإن بعض الفئات التي اكتشفت أنها لن تجد دعماً من الخارج، سوف تسعى الآن في افتعال قصص وحواديت حتى تلفت الأنظار وتلقى بالزيت على النار، وهذه بدورها عليها أن تثنيه في المصالح الوطنية، وإن لم تثنه فإن على بقية فئات المجتمع أن تنبّهها بالأسلوب السلمي ومن خلال المناخ الديمقراطي.
وخير مثال على فشل (فرامل الديمقراطية الأمريكية) ذلك الاستطلاع الذي أجرته “مؤسسة زغبي انترناشيونال” بين 2600 عربي في العراق والأردن ولبنان والمغرب والسعودية والإمارات، وظهر من خلال استطلاع آرائهم أن تحسين مستوى المعيشة، أهم بالنسبة إليهم من (الإصلاح السياسي الأمريكي)، وأن الغالبية ترفض التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية.