وليد إخلاصي الرجل الذي عايشناه كثيراً
كان الرجل الوسيم الجذّاب الهادئ الصاخب يجلس في المقهى الثقافي ونجلس بعيداً عنه، نراقبه وهو يحشو غليونه ويثرثر وحوله بشر ينصتون إليه بهيبة ووقار وقد يضحكون معه قليلاً ، ولكن أبداً لم تكن ضحكاتهم طفليّة كما يفعل هو.
أناقته كانت تستفزنا، كذلك مشيته وحركاته، كل شيء فيه يثير أعصابنا ولا نعود إلى هدوئها، وبعد ذلك ننظر شذراً إلى ذلك الرجل الذي لا يزال يتحدث وتهدأ أعصابنا ونحن نحتسي قهوتنا الباردة.
ثم مضى حين من الدهر، اقتربنا من طاولته، جالسناه وسمعنا حكاياته وأنصتنا إلى طرائفه وأحاديثه الشيقة، عايشناه على طاولة واحدة لسنوات طويلة، قرأنا كتبه وشاهدنا أعماله ممثّلة على خشبة المسرح وشيئاً فشيئاً صرنا نقترب من روحه أكثر وراح الثلج يذوب عن قشرة جلدنا فوجدنا الرجل يحترق بجمر الكلمة.. بسيط كالماء، حنون كالمودّة… حيادي وعادل في أدقّ تفصيلات حياته، وبين هذا وذاك يظل الرجل بشراً من لحم ودم وكل ما يمكن للمرء أن يسجّله عن وليد إخلاصي في دفتر صغير وفي رأس الصفحة، إنه يكره الظلم على نفسه وعلى الآخرين، يحبّ الحقّ ويفتش عنه كي يدافع عنه بوسائله التعبيرية الخاصة به.
الآن، وبعد أن صار للرجل أكثر من 45 عملاً في القصة والرواية والمسرح، عدا اليوميات والزوايا الأسبوعية، يحتاج الواحد منا إلى وقفة صغيرة في اللحظة الحرجة ليدخل إلى صومعة وليد إخلاصي الإنسان الكاتب، قبل أن يدخل من زاوية الأديب الذي ظلّ دائماً، رمز حلب العتيقة.
في جلسات المقهى الثقافي، تلك التي يغلّفها الدخان الكثيف وأصوات الزبائن والقهقهات الرخيصة التي يفلتها أدباء منقطعون عن الموهبة، يجلس الإخلاصي كحكواتي من هذا الزمان، يسرد تاريخه الشخصي وتاريخ المدينة من خلال وقائع وأحداث، حصلت أو لم تحصل وكما في الزير سالم وتغريبة بني هلال، فإنّ الكلام يجرّ كلاماً وتنتهي السهرة ويمضي الإخلاصي إلى موعد كتابته وتظل الدهشة منتظرة قدوم الغد لمتابعة السيرة الإخلاصية. يسحبنا من أصابعنا إلى طفولته، إلى البدايات التي رسمت الملامح الأولى للكاتب، تراه يجذب الأحداث من غفوتها، ويبدأ من حلب المدينة الوقورة حيث تختلط جغرافية الطفولة بامتداد الذاكرة عبر الوراثة، في البيت العربي القديم الواسع والمشجرّ بالكباد والنارنج، تعبق في أرجائه رائحة شجر الليمون والزيزفون وعلى أطرافه أحواض الورد والفل والياسمين وفي وسطه تتدفق النوفرة من البحرة بأحاديث الأصدقاء والأقارب والأهل والجيران، قصص وحكايات يثرثر بها رذاذ الماء لفضاء المكان وللذاكرة التي راحت تختزن كل ذلك من خلال الأذن التي تعشق قبل العين أحياناً.
يتحدّث الإخلاصي عن المدن التي عاشها، كما يتحدث عن حبيبته التي هجرته وتركت القصة معلّقة على أغصان الأشجار، تلتف العصافير حولها وهي تواسيها… وهكذا يكون الحديث عن الاسكندرونة حيث ولد، في البيت القريب من البحر. وعن حمص السكن الثاني التي لم يبقّ منها في الذاكرة سوى الجدران العالية، يظهر الحنين إلى المكان بشكل فاضح في روايته “زهرة الصندل” عندما يعيد الإخلاصي تشكيل المكان في بناء المنصورية، الحي المجاور للقلعة، وهو استعادة للطفولة بكل ما تحمله من طهر وبراءة ونقاء. وهذه الأمكنة تحمل سحرها وأسرارها في داخلها لتدافع عن نفسها باستمرار.
يبدو وليد إخلاصي شديد التأثر بشخصية والده، رجل الدين المتنوّر والمعجب بالأفغاني ومحمد عبده، والذي كان يتوسّم في ولده البديل الجديد أو المثيل لهما، ممّا أيقظ هذا في نفسه نوازع الخير وبشكل دائم ومعادل للإصلاح.
في العام 1946، قرّر وليد إخلاصي، وكان في الحادية عشرة من عمره، أن يكون رئيس تحرير مجلة فأخرجها في 16 صفحة من القطع الكبير، وكان مديرها ورئيس تحريرها والمحررين والمخططين والمخرج. وعلى إثر ذلك وقع في غرام الكتاب الذي بات يستنزف كل مصروفه الشخصي ووقته، وراح يتمرّن على الكتابة بالرسائل العاطفية، له ولأصدقائه، وكان عليه أن يكتشف أن الكتابة فعل للتوصيل أقوى من أي فعل آخر. ولقيت بعض كتاباته تشجيعاً من أستاذيه: سليمان العيسى وخليل الهنداوي اللذين جعلا من منهاج الأدب جزءاً من جماليات الحياة.
لا يكتفي الإخلاصي بسرد الوقائع البهية، أحياناً يتحول إلى واعظ وطني ومرشد روحي، تجده يشتم ويسبّ كل ما من شأنه أن يسيء إلى صفحات الوطن النقية، وعندما يعود بذاكرته إلى خمسينات القرن الماضي، يقول: “في البداية كنا نبحث عن كيان قومي، ثم أصبحنا نبحث عن كيان فردي يحمي الإنسان من كل أسباب التحقير والاستلاب والعذابات التي لا حدود لها. ويبدو أن مثل هذا الانتقال الحاد ما بين الكلي والجزئي هو سبب حقيقي في التدهور، لأن الحلم الوطني الكبير كان سيحقق حماية حقيقية لإنسان هذه المنطقة. وأعتقد أن المأزق الذي قادتنا إليه عملية استلاب الإنسان من الخارج والداخل أفقدنا متعة الحلم الكبير”.
من خلال الإنصات الوقور إلى كاتب مثل وليد إخلاصي، يمكن أن نتعلّم أشياء كثيرة في فن الحديث وفن الحوار ولعبة إدارة الجلسات ومتعة الكتابة ولكن في القضايا الجدية ذات الطابع الوطني والقومي والاجتماعي، يتحوّل إلى شخص آخر، يتحوّل الرجل الدمث الطيب الوديع إلى آخر شرس ومقاتل، يندفع إلى النهاية.
في أواخر الستينيات، تعرّفت على وليد إخلاصي من خلال عرض نصوصه في مسرح الشعب، وعبر رحلة طويلة تعرّفت عليه كاتباً وإنساناً يحمل قلباً كبيراً واليوم كم أتمنى أن أتعرّف عليه أكثر… أعتقد أنه حلمنا البديل الذي نسعى إليه جميعاً.
فيصل خرتش