في ذكرى وفاته.. عبد الغني العطري شيخ الصحفيين السوريين بين الأدب والصحافة
البعث الأسبوعية-أمينة عباس
قال عنه الراحل أ.مدحت عكاش صاحب ورئيس تحرير مجلة “الثقافة”: “إذا كان تقدير الرجال يقاس بما يقدمونه لبلادهم من خدمات وما ينجزونه من أعمال فإني أشهد أن صديقي عبد الغني العطري قد عمل في سبيل رفعة الأدب وخدمة اللغة في وطننا ما يجعله في مقدمة رواد الحركة الفكرية في هذا البلد”.. والعطري هو أحد الرواد الأوائل في الصحافة والأدب، وقد احتار بعض أرباب القلم من أدباء وصحفيين في أمره، فبعضهم يصنفه بين الأدباء دون الصحفيين، وبعضهم يزعم أنه صحفي أكثر مما هو كاتب، أما هو فكان يؤمن أن الأدب والصحافة توأمان، وأنه لا أدب دون صحافة، ولاصحافة دون أدب لقناعته أنه لا يمكن للصحفي أن يكون ناجحاً ومتفوقاً إذا لم يكن مطّلعاً على أدب أمته وملمّاً بآداب الأمم الأخرى، وكذلك لا يمكن للأديب أن ينجح ويبني لنفسه مجداً أدبياً إذا لم يكن على اطلاع مستمر على الصحافة التي تبني شهرة الأديب وتشيد مجده وتذيع أدبه وتعرّف القارئ به.. من هنا كان العطري في أولى خطواته في الحياة العامة موزعاً بين الأدب والصحافة.
مشاغب من طراز فريد
وُلِد عبد الغني العطري في حي ساروجة بدمشق عام 1919 وكان والده في طليعة تجّار دمشق، وفي الخامسة من عمره انتقل من الكتّاب إلى الكلية العلمية الوطنية في حي البزورية حيث تابع فيها دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية وتخرج فيها بتاريخ 30 حزيران 1941 وكانت صرحاً شامخاً للعلم، وكان أساتذة كليته نخبة من رجال العلم والأدب مثل خليل مردم بيك، سليم الزركلي، بدوي الديراني، حلمي حبّاب، بهجت البيطار.. وعُرف عن العطري أنه كان طالباً هادئاً ووديعاً، أما خارج مقاعد الدراسة كان على صلة وثيقة بطلّاب مكتب عنبر الذين كانوا ينظمون الإضراب بتوجيه من الكتلة الوطنيّة التي كانت تقود معركة الاستقلال ضد الاحتلال الفرنسي آنذاك.
غلطة الشعر
في سن مبكرة اهتم العطري بالجرائد التي كان يحشوها في حقيبته المدرسية، ثم انتقل للاهتمام بالمجلات وصار يطالع كل ما يقع بين يديه منها ولا سيما المصرية والفرنسية، وكانت لديه محاولة مبكرة في إصدار مجلة بجهود شخصية وهو ما زال على مقاعد الدراسة وقد أسماها “الأمل” وكان إلى جانب ذلك يقرأ الكتب ويتعلق بها، وعندما قرأ القصة عشق أدبها وبدأ يكتب محاولاته فيها ويترجم عن الفرنسيّة بعض ما يعجبه منها ويقوم بنشرها في المجلّات الكبرى رغم حداثة سنّه، وفي هذه الفترة لم يفكّر العطري في كتابة الشعر إلا أن صداقته الحميمة لهيثم مردم بيك الابن الثاني لشاعر الشام خليل مردم بيك وإعجابه بما كان يكتبه دفعه في نهاية المرحلة الثانوية إلى خوض غمار الشعر وبالرغم من تشجيع هيثم مردم بيك لهذه المحاولة إلا أنه رفض أن يعمل بنصيحته لأنه عندما عاد إلى ما نظمه وقارنه بما قرأ من روائع الأعلام خجل من نفسه وعاهدها على عدم تكرار ذلك، وهذا ما فعله حتى رحيله.
“الصباح” و”الدنيا”
عندما أنهى العطري دراسته الثانوية كان قد قرأ أهرامات من الكتب والمجلات، وتتلمذ على مجلتين عربيتين كبيرتين هما “الرسالة” المصرية و”المكشوف” اللبنانية، وقد نشر فيهما عدداً من المقالات والقصص، وحين أصبح في العشرين من عمره نضجت في ذهنه فكرة إصدار مجلة أدبية راقية في دمشق تضم شمل أدباء سورية وتجمع أقلامهم ونتاجهم بعد أن مرّ الأدب والأدباء في فترة خمول سببها ظروف الحرب العالمية الثانية وكان ذلك في صيف العام 1941 وكانت الخطوة الأولى أن استأجر امتياز صحيفة “الصباح” مما خوّله حقّ إصدار المجلة وأن يكون رئيس تحريرها، وفي مرحلة التحضير استعان بمجموعة من الأدباء الشباب يومئذ: فؤاد الشايب، زكي المحاسني، خليل هنداوي، وغيرهم ليكتبوا فيها، ولم يقتصر طموحه في تلك الفترة على أدباء سورية بل أخذ يكتب إلى عدد من أدباء مصرولبنان والعراق، وكان أول من اتصل به في مصر صديقه عميد القصة العربية محمود تيمور، وكانت قد نشأت بينهما صداقة حميمة من خلال رسائل أدبية متبادلة بينهما، وكان تيمور مراسلاً لـ”الصباح” في مصر، ويستكتب لها من يثق بهم، وكان عددها الأول قد صدر في السادس من تشرين الأول عام 1941 واستمرّت بالصدور المنتظم عامين كاملين، وعلى صفحاتها ظهر عدد كبير من أعلام الأدب، منهم الشاعر نزار قباني الذي نشر فيها أولى محاولاته الشعرية، وكذلك عبد السلام العجيلي وسهيل إدريس وبديع حقي وخليل مردم بيك ومحمد البزم، وغيرهم، ولأن العطري كان شديد التعلّق بالقصة بعد أن قرأ أعداداً كبيرةً منها لكبار أدباء العالم من فرنسيين وأميركيين وروس ودانماركيين، وترجم بعض قصصهم، وكان يحرص في مجلة “الصباح” على أن ينشر في كل عدد قصة على أن تكون عالية المستوى، وكانت حماسته للقصة تقابَل بكثير من المعارضة لدى أنصار الأدب القديم، حيث لم يكن أحد منهم يؤمن بأن القصة أدب رفيع، ومع هذا وبعد أكثر من عامٍ من صدور “الصباح” بدأ يفكر بالإقدام على خطوة أكثر جرأة لتشجيع هواة القصة من الجيل الجديد، وفي جلسة ضمت الكتّاب عمر أبو ريشة وفؤاد الشايب ونزيه الحكيم وصلاح الدين المحايري صارحهم بأنه يفكر بإقامة مسابقة للقصة القصيرة لتكون حافزاً للأدباء الشبان على مضاعفة اهتمامهم بها، وأعلن عمر أبو ريشة تبرعه بالجائزة الأولى للمسابقة، وفاز بها عبد السلام العجيلي عن قصة “حفنة من تراب” في حين فاز بالجائزتين الثانية والثالثة الكاتبان عزيز بشور وبديع حقي، ومن المؤسف أن عمرَ “الصباح” كان قصيراً، وعلى أثر انهيار هذا الصرح الأدبي أُصيب العطري بصدمة قاسية دفعته إلى إثبات الوجود من جديد، حيث وافق على العرض الذي جاءه للعمل رئيساً لتحرير جريدة “الأخبار” ذات الصف الثالث من الصحف اليومية، واستطاع النهوض بها وجعلها تقف في الصف الأول من الصحف، وفي الوقت ذاته كان يخطّط لتأسيس مشروع صحفي كبير، وحين توفر المال لديه حصل على امتياز إصدار مجلته “الدنيا” وصدر العدد الأول منها في 17 آذار 1945 وكان صدورها فتحاً جديداً في الصحافة السوريّة، فقد استطاع أن يُدخل عليها الطباعة الملونة والمادة الطريفة والإخراج الجديد، كما أدخل عليها أبواباً جديدة لم تكن معروفة في صحافتنا، اقتُبِس بعضُها من المجلات الفرنسية، وبعضها ابتكره وطوّره، وكانت المجلة تصل إلى كل مدينة وقرية سوريّة، و توزّع في العراق والأردن وبعض البلاد الأوربية، وكانت تصدر بانتظام لا مثيل له في يوم معيّن وساعة محدّدة، ولم تكن المجلة تعرف العطلة فقد تعلم العطري من المجلات العالمية الكبرى أن المجلة الأسبوعية لا حق لها في الغياب أو العطلة مهما كانت الأسباب والظروف.. وفي العام 1953 ضاعفت المجلة نشاطها وأصدرتْ سلسلة كتب تحمل عنوان “كتاب الشهر” وظلّت “الدنيا” تزداد تألقاً وانتشاراً إلى أيام الوحدة مع مصر وكانت في تلك المرحلة المجلة الوحيدة في سورية بالإضافة إلى “المضحك المبكي” وبيَّن العطري في كتاب “اعترافات شامي عتيق” الصادر عن دار البشائر للنشر والتوزيع أن عمله في “الصباح” ثم “الدنيا” جعله على علاقة وثيقة بجميع الأدباء والشعراءالذين كانوا يخطبون ودّه ويتوددون، لكنه وبالرغم من ذلك لم يفكر يوماً بالإساءة إلى شاعر أو قاصّ، فقد كان يعتبر الكبير منهم أستاذه، والناشئ المبدع تلميذه المدلل، فتخرج منها في الخمسينيات صحفيون باتوا أعلاماً في الصحافة ورؤساء تحرير لجرائد رسمية كبرى.
العودة
بعد توقف “الدنيا” عن الصدور في بداية الستينيات توجه إلى السعودية في كانون الأول 1963 وعَمِل مستشاراً لوزير الإعلام هناك، كما عاد إلى الكتابة ولكن على صفحات مطبوعات عربية هذه المرة مثل”الفيصل” و”العربي” و”المجلّة العربية”.. وفي مطلع السبعينيات عاد إلى دمشق بصفة مدير للمكتب الصحفي في السفارة السعودية قبل أن يتقاعد من الوظيفة ويتفرغ كلياً للكتابة والنشر، فأخذ يكتب لبعض المجلات الثقافية ويلقي المحاضرات والأحاديث في الإذاعات والمراكز والمكتبات،ثم بدأ يصدر الكتاب تلو الكتابفأصدر سنة 1970 كتاباً بعنوان “أدبنا الضاحك” وفي العام 1986 كان كتابه الثاني “عبقريات شاميّة” ويتحدث في مقدمة الكتاب عن الشام التي أنجبت العباقرة: “منذ قديم الزمان والشام تنبت العباقرة والنابغين والنابهين في العلم والأدب والشعر والفن والسياسة والصحافة، وكتب التراث العربي تحفل بذكر هؤلاء النابغين” وعن هذا الكتاب قال الشاعر الراحل نزار قباني مخاطباً العطري: “خمسون عاماً مرت وأنت لا تزال تختزن في ذاكرتك نجوم الشام نجمة نجمة، وأقمارها قمراً قمراً، وتحفظ أسماء أشجارها وأنهارها وعصافيرها وحمائمها وقططها وصبيانها ونباتها ومآذنها وأصوات مؤذنيها” ومن هذا المشروع ولدت سلسلة “العبقريات” التي أصدرها العطري في الفترة ما بين 1996-2000 والتي تناولت سيرَ أهم الشخصيات السورية في السياسة والاقتصاد والفن والصحافة، وفي هذه المرحلة وضع أ.العطري مُذكّراته بعنوان “اعترافات شامي عتيق” التي صدرت بدمشق عام 1998 وآخر كتبه كان عبارة عن مجموعة من المقالات الوجدانية حملت عنوان “همسات قلب” صدرت بدمشق عام 2001 وفي العام 2002ومع صدور مرسوم بصدور المطبوعات الخاصة حصل العطري على رخصة لإعادة طباعة مجلّة “الدنيالكن مشروعه لم يتحقق بسبب وفاته في حادث مرور سنة 2003.
شمس غابت عنا
وفي تصريحه للبعث قال نجله د.سامر العطري: “عبدالغني العطري صفحة جميلة من كتاب الزمن الجميل، فهو السياسي القومي والأديب الإعلامي الذي لطالما بنى حياته في أصعب الظروف والتحديات بانسجام أتعبه بين نقيضين عايشهما بتناغم وذكاء وصفاء، بين انتمائه لعائلة دمشقية تجارية وميوله السياسية والأدبية والإعلامية التي ظهرت باكراً وبين طموحه وصعوبة الواقع وأحلامه التي حوّلها إلى ممكنات بتصميم أكيد وإرادة لاتلين، ومنذ غيابه أدركتُ أن شمساً غابت عنا، وكان جل توجيهه المستمر لنا حبّ الوطن والصبر والعمل، وتلك هي صفاته التي عرفت بين الناس، فحمّلنا بذلك مسؤولية عظيمة في الحفاظ على ما شيده، وهاهي ثمانية عشر عاماً تمر على رحيل والدنا تاركاً فكراً ونهجاً وسيرة نبيلة وعريقة وحكاية عمل وأمثولة جهاد وبناء مجد”.