ناعورة حماه.. أيقونة معلقة بين الماء والسماء
البعث الأسبوعية- ذكاء أسعد
تعتبر نواعير حماه من أهم الأوابد الأثرية وأبرز المعالم التاريخية ليس لتفرد حماه بها فهناك عدة نواعير في مناطق أخرى أبرزها في العراق على نهر دجلة، لكن النواعير التي وجدت في مدينة حماه تميزت بعددها الكبير وأحجامها المختلفة فقد ذكر في الكتب التاريخية أن عددها كان في القرن السادس عشر 116 ناعورة بقي منها حالياً 19 ناعورة في مدينة حماه وشيزر ويقول فرزات: أنها تقسم إلى مجموعات المجموعة الأولى تسمى البشريات تقع في مدخل حماه شرقاً على الطريق العام للسلمية وتضم 4 نواعير ناعورتا البشرية الكبرى والصغرى ثم الناعورتان العثمانيتان، والمجموعة الثانية هي الجسرية وتتألف من 4 نواعير أولها الجسرية نسبة إلى جسر المراكب (جسر السرايا القديم) وكانت سابقاً تسمى ناعورة اليزبكية وهي في وسط حماه، تليها ناعورة المأمورية نسبة إلى أمير كافل حماه بلياك، وتقع في حي الطوافرة ثم الناعورة العثمانية نسبة إلى عثمان باشا ثم الناعورة المؤيدية نسبة إلى مؤيد بن نصوح باشا العضم، أما المجموعة الثالثة فهي المجموعة الكيلانية القريبة من جسر عبد القادر كيلاني تحتوي عل 4 نواعير أولها ناعورة الجعبرية وكانت سابقاً تسمى ناعورة البيمارستان لأنها تزود البيمارستان بالمياه وتليها ناعورة الصاهونية نسبة إلى الشيخ محمد بن محمد الخطيب الشهير بابن صاهون فهو من بناها وتليها الناعورة الوسطانية وتقع بين الجعبرية والصاهونية، والرابعة تسمى الكيلانية وتقع بالجهة المقابلة لهم وتسمى الباز، والمجموعة الرابعة تسمى مجموعة باب النهر مؤلفة من 5 نواعير أولها ناعورة الخضر أو اليخضورة نسبة إلى بستان اليخضورة ثم ناعورة الدوالك نسبة إلى بستان الدوالك الواقع بقربها، ثم ناعورة الدهشة نسبة إلى بستان الدهشة ثم الناعورة المحمدية الواقعة في باب النهر وهي أكبر ناعورة في حماه قطرها 21 ونصف، وأخيراً ناعورة القاق وتقع إلى الجهة الشمالية الغربية من الناعورة المحمدية.
هي رمز ومعلم أثري كبير وشاهد على تاريخنا وحضارتنا ويتم توظيفها الآن لأغراض سياحة خاصة وأن دائرة النواعير التابعة لمجلس مدينة حماه تقوم بشكل دوري بتجديد خشبها لمنع تلفها بسبب المياه وحفاظاً على جمالها وألقها ولتبقى شاهدا على تاريخ وحضارة هذا البلد.
شكلت النواعير لغزاً حير الكثيرين دفعت الرحالة الذين جابوا أصقاع الأرض إلى التغني بها فقد قال ابن بطوطة في تقريره عن رحلته الكبرى والذي أسماه تحفة النظار في غرائب الأمصار: “مدينة حماه إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة ذات الحسن الرائق والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات، عليها نواعير كالأفلاك الدائرات، ويشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي”.
وقال فيها ابن جبير الأندلسي “هي مدينة شهيرة في البلدان قديمة الصحبة للزمان، لا يهش البصر إليها، عند الإطلال عليها، كأنها تكن بجبهتها وتخفيها، فتجد حسنها كامن فيها، حتى إذا جست خلالها ونقرت ظلالها، أبصرت بشرقيها نهراً كبيراً تتسع في تدفقه أساليبه، وتتناظر بشطيه دواليبه، قد انتظمت في طرفيه بساتين تنهدل أغصانها عليه، وتلوح خضرتها عذاراً بصفحتيه”.
وألهمت هذه اللوحة الأثرية الفنية العديد من الشعراء حيث روي أن مؤسس مجمع اللغة العربية محمد كرد علي قال لأمير الشعراء أحمد شوقي عام 1938 قبل رحلتهما إلى حماه “نحن ذاهبون إلى بلد نصف سكانها شعراء” وعندما رأى شوقي حماه ونواعيرها قال “الغريب ألا يكون النصف الآخر شعراء أيضاً” وقال شوقي أيضاً “ليت على النيل نواعير مثلها”.
وتغنى الشاعر السوري أنس الحجار بها فقال:
هي قصة سطورها أخشاب
والحب في أعطافها ينساب
أسرت قلوب العاشقين بحسنها
وإلى مداها حجت الأغراب
النهر يعشقها ويمضي هائما
ويراود النهر العشيق إياب
وكتب الشاعر والأديب السوري شفيق جبري فيها نثراً فقال “إن حماه مدينة الموسيقى والأحلام، فمن مسافة إلى مسافة، تشاهد دواليب ضخمة تحمل ماءها لتسقي به الجنان، فكأنما نغمات موسيقية تخرج من هذه الدواليب الهادرة، الشعر يفيض من كل ناحية من نواحي حماه، من أنين مائها وحنين صفصافها وثغاء مواشيها، ما أرغد المعيشة في مدن الشعر”.
هي لوحة فنية أبدع الصناع في رسمها وقبلة للسياح من أصقاع الأرض، تأسر أنظارهم ومسامعهم وأفئدتهم لتجعلهم يدمنونها شوقاً وعودة.