تبدأ بألف ليرة.. “الإكرامية” ظاهرة تتفشى في المؤسسات الحكومية على الملأ..!
تكاد لا تخلو مؤسّسة أو شركة أو أي دائرة حكومية اليوم من وباء استشرى فيها خلال سنوات الحرب، وامتدّ ليأخذ أبعاداً جديدة، حتى بات من الصعب السيطرة عليه وكبح جماحه، إذ تظهر آفة “الرشوة” جليّة في هذه الأماكن دون أي حساب للقوانين والتشريعات المانعة لها تحت ذريعة واحدة تصبّ في استحالة تحمّل الراتب الخجول مسؤوليته في إتمام واجبه تجاه الأسابيع الثلاثة الأخيرة من الشهر، ليكون اللجوء إلى هذه الطريقة وغيرها من الأساليب الملتوية، والتي تندرج تحت بند “الإكرامية” الملاذ الأكيد للغالبية العُظمى من العاملين في الدولة أو حتى في القطاع الخاص، وهي تزداد وتنقص حسب الدرجة الوظيفية، بدءاً من المستخدمين في هذه الدوائر وصولاً إلى حملة الشهادات الجامعية ممن تجردّوا من أخلاقيات العمل الوظيفي أمام نار الأسعار التي ما زلنا نكتوي بها منذ سنوات!.
التسعيرة معروفة!
وعلى الرغم من اجتهاد الكثيرين خلال السنوات الأخيرة بالعمل صباحاً ومساءً في ظل الظروف المعيشية المتأزمّة، إلاّ أن ذلك لم يمنع تجاوز أغلب الموظفين لأخلاقيات وقوانين العمل في طلبهم دون خجل “الحلوان”، حتى وإن كانت المعاملة المطلوبة دون أي جهد ولا تخرج من دائرة توقيع روتيني، لكن على ما يبدو أن حركة يد الموظف في التوقيع مع حبر القلم تتطلّب في أقل الحالات ألف ليرة سورية، إذ لم يعد طلب الإكرامية يشكل أمراً محرجاً كما كان قبل سنوات الأزمة، بل على العكس بات إجراءً روتينياً وأمراً اعتيادياً لدرجة أن تسعيرة كل توقيع أو كل موظف أصبحت معروفة عند الكثيرين، ليؤكد لنا أحد المحامين ممن اعتاد على تسيير معاملاته اليومية بمبالغ تتراوح ما بين فئة الـ 1000 ليرة إلى الـ 10000 ليرة، وهي لا تشكّل أي عبء مادي عليه، في حين تصل إلى مقدار راتب شهري عند الموظف الذي يتقاضاها في حال أنجز نحو عشر معاملات يومياً، لافتاً إلى أن ارتفاع نسبة الرشاوى والفساد يتناسب طرداً مع فشل الحكومة في ضبط ارتفاع الأسعار الذي لم يترك خياراً أمام الموظفين سوى طلب الإكرامية “على عينك يا مواطن”!!
سد الثغرات
ويُجمع أهل الخبرة على انتشار الفساد بجميع أشكاله في جميع الدول، وعدم اقتصاره على دول معيّنة، لكنّ معاناة الدول مع الحروب تجعلها عرضة بشكل أكبر لاستشراء الفساد بكل أشكاله، بحيث تنتشر جرائم الاتجار بالوظيفة العامة أو الاعتداء على المال العام وتلقي الرشوة بشكل غير مشروع، الأمر الذي يؤثر سلباً على خطط التنمية ويؤدي إلى انهيار الاقتصاد الوطني، ما يتطلّب الاهتمام بشكل أكبر من قبل الجهات الرقابية على الفساد في المستوى الكبير، حيث تمتد عواقبه إلى باقي المستويات في المجتمع. وهنا يرى الدكتور سمير إسماعيل (باحث في الإدارة العامة) ضرورة إتاحة الفرص للآراء والاتجاهات المختلفة للتعبير عن وجهات نظرها من خلال المؤسّسات ووسائل الإعلام المختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى كشف العديد من حالات الفساد ووضعها تحت بصر وتصرف الأجهزة الرقابية والقضائية المنوط بها هذه الأمور، إضافة إلى ضرورة سنّ القوانين والتشريعات المنظمة والرادعة دون استثناء، بهدف سدّ الثغرات التي ينفذ منها المفسدون والتصدي لمن تسوّل له نفسه التلاعب بأموال ومصالح الدولة والشعب. ولفت إسماعيل إلى ضرورة تعظيم دور الأجهزة الرقابية المتخصّصة، وعلى رأسها الأجهزة المركزية، لتأخذ دورها كاملاً في محاسبة المفسدين والمرتشين في الأجهزة الإدارية وفي كل مفاصل المؤسّسات والتصدي للفساد في جميع صوره.
جريمة جنحوية
كما بيّن المحامي عثمان الأحمد أن عقوبة الراشي تختلف باعتباره فاعلاً آخر في جريمة الرشوة عن عقوبته باعتباره فاعلاً أصلياً في جريمة عرض الرشوة، حيث عوقب في الحالة الأولى بعقوبة المرتشي نفسها حسب المادة 343 من قانون العقوبات السوري، أما في الحالة الثانية “عرض الرشوة” فهي جريمة جنحوية الوصف في مطلق الأحوال والتي نصّت عليها المادة 345 من قانون العقوبات، وحدّدت العقوبات بالحبس لثلاثة أشهر على الأقل، وبغرامة لا تنقص عن ضعفي قيمة الشيء المعروض أو الموعود. أما المرتشي وهو من المفترض أن يكون موظفاً أو شخصاً نُدب لخدمة عامة، أو كُلّف بمهمة رسمية، فقد أكد الأحمد أن المشرّع السوري فرّق بين المرتشي الذي قبل الرشوة مقابل أن يقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته، حيث اعتبر هذه الجريمة جنحوية الوصف وعاقب عليها بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، وبغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل به حسب المادة 341 من قانون العقوبات، وبين المرتشي الذي قبل الرشوة ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدّعي أنه داخل في وظيفته، أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً، حيث اعتبر المشرّع هذه الجريمة جنائية الوصف وعاقب عليها بالأشغال الشاقة المؤقتة، وبغرامة لا تنقص عن ثلاثة أضعاف ما أخذ أو قبل به حسب المادة 342 من قانون العقوبات، على أنه وبكل الأحوال يُعفى الراشي والمتدخل من العقوبة إذا باحا بالأمر للسلطات ذات الصلاحية أو اعترفا بها قبل إحالة القضية للمحكمة.
شرعنة الرشوة
من جانب آخر، يرى البعض أن ما اعتبره القانون “رشوة يعاقب عليها” هو حلّ لأزمة اقتصادية على المستوى الشخصي، بحيث يتمّ من خلالها تدوير رأس المال من شخص لآخر، وهنا نحدّد الحالة التي يقبل بها الموظف الرشوة مقابل عمل شرعي من أعمال وظيفته، ولاسيّما أنها – حسب زعمهم – لا تسبّب ضرراً على الاقتصاد الوطني، وخاصّة ضمن الظروف الحالية التي يعيشها البلد وضعف الراتب الوظيفي وتدني المستوى المعيشي، كما اتجه آخرون إلى شرعنتها واعتبارها حقاً لهم واجباً السداد، على اعتبار أن ما يقومون به من عمل وظيفي لا يتناسب مع ما يتقاضونه من أجر، في حين انتهج البعض أسلوب الابتزاز والضغط وعدم القيام بالعمل إلّا في حال الحصول على مبلغ يقدّره على “هواه”، وهذا النموذج الأخير يسيء إلى أخلاقيات العمل الوظيفي، ويحدث فوضى في هذا العمل وعدواناً على المال العام.
وإذا ما اتجهنا إلى رأي المواطنين المراجعين بمعاملاتهم الدوائر الحكومية نجد أن الأغلبية رأت بهذه الظاهرة نوعاً من “الفساد الإيجابي” الذي يصبّ في مصلحتهم بتسيير معاملاتهم بشكل فوري مقابل مبالغ لا تشكّل عبئاً مالياً عليهم، في حين تحقق دخلاً ليس بالقليل لهذا الموظف أمام عشرات المعاملات اليومية، في المقابل يرى البعض عدم أحقيّة الموظفين بطلب “الإكرامية” كونهم يقومون بواجبهم الوظيفي ويتقاضون عليه أجرهم، وبالتالي يجب ألا يتحمّل المواطن مسؤولية عدم كفاية أجرهم الشهري، وسدّ هذا النقص من جيب المراجعين المنحدر أغلبهم من طبقات المجتمع الفقيرة غير القادرة على تحمّل أعباء إضافية!.
ميس بركات