في ظلّ الجرائم المرتكبة بحقّ اللغة.. هل الاستعانة بمدققٍ لغويّ أمر مخجل؟
تُعرّف اللغة اصطلاحاً وباختصار بأنّها نسق من رموز صوتية لها نظم متوافقة في التّراكيب والألفاظ، وتستخدم من أجل التّواصل الاجتماعي والفردي، ويعرّف الأدب – بعيداً عن الخوض في جذر الكلمة – بأنّه أحد أشكال التعبير عن أفكار الإنسان وعواطفه باستخدام أساليب كتابية متنوعة، أي هو ما ينتجه العقل الإنساني من صنوف المعرفة، ولكي تتمّ هذه المهمّة على أتمّ وجه لابدّ من أن يمتلك الأديب لغة سليمةً، ولاسيّما إن كانت لغة غنية كالعربية، يقول الشّاعر الفرنسي بول فاليري: “ليس الأدب ولا يمكن أن يكون إلّا توسيعاً لبعض خصائص الّلغة واستعمالاً لها”.
حقيقة العلاقة بين اللغة والأدب لا تغيب عن أحد، وعلى الرّغم من ذلك نقرأ ونسمع ونشاهد، كلّ يوم، أخطاء لغوية فادحة تصدر عن أدباء على اختلاف مشاربهم ومجالاتهم، ولعلّ هذه المشكلة ليست بالجديدة بل قديمة قدم اللغة والأدب، نستذكر هنا ما نظمه الشّاعر حافظ إبراهيم في اللغة العربية، يقول:
أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامن فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عزّا الدّواء محاسني
فلا تكلوني للزّمان فإنّني أخاف عليكم أن تحين وفاتي
ويضاعف هذه المشكلة اليوم، ما يقوم بكتابته بعض الأدباء على صفحاتهم على شبكات التّواصل الاجتماعي بسرعة ومن دون تدقيق لغوي. يقول الأديب نزار بني المرجة: لابدّ من التّنويه بأنّ ما نلاحظه من هنّات لغوية فادحة أحياناً لدى هؤلاء المتسرّعين بنشر نتاجهم قبل نضوج وصقل مستواهم اللغوي، سواء أكان في المنابر الثّقافية التي تتزايد كلّ يوم أو عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، حيث أصبح كلّ شخص يمتلك صحيفته الخاصّة وتلفازه الخاصّ وإذاعته الخاصّة لنشر كلّ ما يريد بشكلً آنيّ وسريع بعيداً عن أي مراجعة أو تدقيق لغوي لما يكتبه وينشره، وهذا ما يتسبّب بحدوث فوضى لغوية مربكة، والمؤلم هو اقتباس وتداول تلك المنشورات مع أخطائها من دون الانتباه إلى خطورة ما يحصل من تشويه لغوي من الصّعب تصحيحه أو الرّجوع عنه، لأنّه أصبح متداولاً بمثابة المسلمات أو الأمر الواقع.
وتشير الشّاعرة سمر تغلبي إلى مسؤولية دور النّشر في كثير من الحالات عن هكذا أخطاء، وتوضح، كتبت يوماً: لا أؤمن بأديب لا يتقن لغته وما أزال أؤمن بهذه المقولة بشدّة بعد ما شاهدناه ونشاهده من إسفاف لغوي وانحدار نحو القاع في اللغة التي نورثها للجيل القادم. فقد أشارت صاحبة إحدى دور النّشر في أحد الحوارات إلى أنّ الالتزام بسلامة اللغة يشكّل قيداً يحدّ من إبداع الأديب، وهذا لعمري جهل مركّب، فهل بالإمكان أن نقول إنّ التزام الموسيقي بالمقامات الموسيقية قيد يحدّ من إبداعه؟ إذا جاز لنا هذا يجوز لغيرنا ذاك.. ولئن كان هناك من ينتشي لنصّ مليء بالـ “نّشاز” اللغوي، فهناك أيضاً من يتمايل على أنغام يملؤها النّشاز الموسيقي فهل تمايلهم حجة على الموسيقى؟ هذه كتلك؟.. كما نعلم بأنّ الأدب وعاء اللغة وحارسها الأمين، ومرجع لإثبات القضايا النّحوية المختلف عليها، فنحن نقرأ في المعاجم مثلاً الكثير من الشّواهد الشّعرية أو النّثرية، فلنا أن نتخيّل حجم الأذى الذي سيلحق باللغة حين تكون هذه الشّواهد مشوّهة للغة الأم. قد يقول قائل: إنّ هذا الاستشهاد إنّما ينطبق على كتابات عصر الاحتجاج الذي انتهى قبل بداية القرن الخامس الهجري، وأقول: إنّ هذا القول حقّ أريد به باطل لسببين، الأوّل: أنّ هذا الكلام لا يعرفه العامّة الذين يتأثّرون بهذه الكتابات التي ترسّخ أخطاءها في أذهانهم من دون وعي منهم، والثّاني إنّه يعدّ تبريراً للخطأ وتقليلاً من أثره.
وتضيف تغلبي: وقد يتبادر للذّهن بأنّ المسؤول عن الأخطاء في عصرنا الرّاهن هو دور النّشر التي يجب أن تخضع مطبوعاتها للتّدقيق قبل نشرها، وبما أنّ الكثير من دور النّشر لا تقوم بالتّدقيق على الرّغم من ادّعائها بوجود مدقق لغوي لديها، فالمسؤولية المباشرة تقع على الكاتب مهما كانت درجة إتقانه للغة.
إذاً.. هل على الأديب أن يتمتّع بلغة سليمة أم لا بأس من وجود مدقق لغوي يستعين به قبل طباعة وإصدار منتوجه؟ يجيب القاصّ محمد ياسين صبيح: لا شكّ أنّ الكتابة حالة إبداعية تتطلّب أن يمتلكها الكاتب، وهذه تأتي من موهبة بالدّرجة الأولى ثمّ من مثابرة وثقافة ومطالعة، وكلّ ذلك لا يمكن أن يخلق كاتباً ما لم يمتلك أدواته الإبداعية، ومن أهمها الأسلوب الذي يجب أن يتميّز به ليعطي إبداعاً مختلفاً لا يقلّد فيه غيره، وبالتّأكيد الصّياغة المتقنة، لكن ما يحتوي كلّ ذلك هو اللغة الحاضن المهم لكلّ الإبداعات، وفيها تتجلّى مقدرة الكاتب على الصّياغة المتقنة، وهنا يجب أن نميّز بين قضيتين مهمتين، الأولى: هو أنّ على الكاتب أن يتمتّع بصياغة مختلفة وسلسة وغير متكلّفة، وهذا يحتّم عليه أن يعرف الكثير عن قواعد وأصول اللغة العربية، والثّانية: هي أن التّبحر باللغة ليست شرطاً على الكاتب بل الأكثر أهمية هو أن يمتلك كما ذكرنا أدواته الإبداعية من أسلوب وفكرة وصياغة، وبالطّبع ليس من اللائق أن ينشر أي شيء قبل أن يدقق ما كتبه، لذا لا مانع من أن يستعين بمدقق لغوي، فهو ليس لغوياً بالأساس بل كاتب يمتهن الإبداع، مؤكّداً: إتقان اللغة وعلومها ونحوها لا يخلق كاتباً أو مبدعاً، فكم من خريج لغة عربية لم يمتهن يوماً أي نوع من الكتابة بل لا يجيدها أبداً والعكس.. فالكثير من الأدباء والمبدعين كتبوا إنتاجات باهرة وكانت لديهم بعض الأخطاء اللغوية، الأمر معقّد قليلاً ويحتاج إلى توازن بين الحالتين: أن يتقن الإبداع وأن يتقن اللغة بشكلٍ يجعله يكتب بصياغةٍ مدهشة، فالصّياغة هي أسلوب إبداعي لا يتقنه إلّا الموهوب.
وهذا ما تؤيّده أيضاً تغلبي، تقول: من الأفضل للكاتب الاستعانة بمدققٍ لغوي يصوّب الأخطاء المطبعية وأخطاء السّرعة، أمّا إن لم يكن يتقنها فعليه واجبان لا مناص منهما، الأوّل: الّلجوء لمدقق لغوي، والثّاني هو العمل الدّؤوب على تطوير لغته ليصل بها إلى الإتقان حتّى لو تأخّر قليلاً عن ركب الأدب فهو بعد ذلك سيحلّق.
وينوّه بني المرجة بجوانب أخرى تلعب دوراً مهماً في هذه المسألة، يقول: بالتّأكيد يتوجّب على الشّاعر أو الأديب أن يمتلك أداته اللغوية السّليمة عند امتلاك منجزه الإبداعي، سواء أكان قصيدةً أم قصّة أم روايةً، وحتّى الدّراسة النّقدية أو المقال العادي، فهذا مبدأ لا خلاف عليه كما أعتقد. وفي المقابل يجب الاعتراف بأنّ امتلاك ناصية اللغة السّليمة وقواعدها بشكلٍ مطلق ربّما لا يكون في متناول الجميع بسبب اختلاف مستويات التّعليم بين بيئة وأخرى وبين كاتب وآخر، ومن هذه الزّاوية تبرز أهمية وجود وظيفة المدقق اللغوي في المؤسّسات الفكرية والأدبية والثّقافية المسؤولة عن نشر الكتب والدّوريات، وكذلك في المؤسّسات والمنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، لأنّ وجود أخطاء لغوية في المادة المنشورة أو المذاعة يسيء إلى إمكان اعتمادها مرجعياً، ويشكّل خطراً على أجيال جمهور المتلقين الذين سيتبنون النّص بقدسية وكأنّه منزّه عن الأخطاء، مبيناً: وجود المدقق اللغوي أو اللجوء إليه ليس عيباً على الإطلاق، بل هو عامل إيجابي لمصلحة الشّاعر أو الكاتب أو الأديب، حيث ينقذه من عيوب وأخطاء لغوية ستعدّ لاحقاً مأخذاً عليه.
نعم ليس عيباً أن نستعين بمدققٍ لغوي، وليس عيباً أيضاً أن نقرأ ونصحّح منشورات بعضنا البعض بكلّ ودّ واحترام، أذكر مرّة أنّي أرسلت لأحد الأصدقاء أسأله عن لبس نحوي ورد في منشوره، فإذ به يجيب بكلّ ودّ وموضوعية، ومرّة أخرى نبّهت آخر إلى خطأ ومنذ ذلك اليوم وأنا عدوّته الّلدودة، وفي المقابل كتبت على عجالة منشوراً على صفحتي على الـ”فيسبوك” نبّهني إليه أحد الأصدقاء برسالةٍ خاصّة وشكرته بأبيات تلت الأبيات التي ذكرتها سابقاً من قصيدة الشّاعر حافظ إبراهيم عن اللغة العربية وظروفها وموتها في حال بقينا على ما نحن عليه:
إلى معشر الكتّاب والجمع حافل بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإمّا حياة تبعث الميت في البلى وتنبت في تلك الرّموس رفاتي
وإمّا ممات لا قيامة بعده ممات لعمري لم يقس بممات.
نجوى صليبه