النظام الدولي أمام جولة تصعيد واضحة وملامح الحرب الباردة تلوح في الأفق
البعث الأسبوعية- محمد نادر العمري
اشتدت في الآونة الأخيرة طبيعة الصراعات القائمة القديمة والجديدة والمتجددة بشكل أصبح أطراف الصراع من الدول الكبرى في خضم الصراع الذي لايمكن نكرانه، والذي أوصل النظام الدولي إلى حافة الهاوية، ومما يؤكد حتمية هذا التصعيد مروحة من المؤشرات التالية:
- إن اقتراب الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومجموعة 5+1 من التوصل إلى اتفاق جديد حول الملف النووي الإيراني، قد يخرج الاتفاق السابق من سباته الطويل، لكنه لا يعني أبداً أن المنطقة ستشهد هدوءاً واستقراراً مرتقباً. على العكس من ذلك، تبدو الصورة معقدة على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، ولا سيما مع إزدياد حدة الصراع المتنامي بين جناحي النظام الدولي، وما يمثلانه من تأثير وتحالفات ورؤى ومصالح جيو- استراتيجة. وقد تشكل الظروف الداخلية دافعاً قوياً نحو التصعيد المحتمل، فالتوصل إلى اتفاق متوقع مع القيادة الإيرانية خلال الأسابيع القليلة القادمة بعد تذليل معظم الصعوبات، لا يعني أن العلاقة الأميركية الإيرانية ستشهد شهر عسل طويل، بل ستسارع إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن للانتقال نحو التضييق على الجمهورية الإسلامية عبر ملفات أخرى كمسألة نفوذها المتنامي في دول الشرق الأوسط، وقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والبرنامج الصاروخي، وغيرها الكثير من الملفات الوظيفية في هذا الشأن. ويتمثل سبب ذلك برغبة الرئيس بايدن وحزبه في حصد أصوات المواطنين قبل الانتخابات النصفية للكونغرس 2022، وتفادي حجم الهجمة المتوقعة عليه من قبل الجمهوريين وبعض قيادات حزبه الذين يرفضون منح إيران أي شرعية ونقاط قوة من خلال الاعتراف ببرنامجها النووي من جانب. ومن جانب آخر، تفادي الغضب الصهيوني الرسمي واللوبي على حد سواء، وذلك لأن عودة الغرب إلى الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية تصب في مصلحة الأخيرة، وتضر بمصالح الأمن القومي الإسرائيلي ، وفق مايروج له إسرائيلاً.
- بينما يشكل استمرار البحث عن ذريعة لإبقاء قوات الاحتلال الأميركية قواعدها في المنطقة، وخصوصاً في سورية والعراق، دافعاً ثانياً نحو هذا التصعيد. وقد تم التمهيد لذلك بدايةً من خلال تمهيد الرأي العام الداخلي الأميركي عبر سلسلة من التقارير والتصريحات الرسمية لمسؤولي الإدارة الحالية، والتي تنفي ما أعلنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من انتهاء وجود “داعش”. حيث صب تركيز التصريحات الحالية والتقارير التي كان آخرها في نهاية العام 2021، من قبل المفتش العام لوزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” على ما يسمى عملية “العزم الصلب”- العملية الدبلوماسية والعسكرية التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم “داعش” في العراق وسورية- والتي تضمنت في أحد بنودها الإشارة إلى تصاعد القلق من تزايد نشاط تنظيم “داعش”. تزامن ذلك مع نشاط ملحوظ لعناصر هذا التنظيم في كل من الجغرافيتين السورية والعراقية خلال الشهرين الماضيين، واتباعه تكتيكاً وأسلوباً جديدين يهدفان إلى إحداث أكبر قدر من الخسائر بأقل التكاليف، قبل أن يتم افتعال أحداث سجن الصناعة لتبرر هروب الداعشيين، في سلوك يوحي ، بانتقال هذا التنظيم الموظف من “طموح إنشاء الدولة لما يمكن وصفه الخلافة النائمة”، وذلك لإحراز نقاط في الحرب النفسية والمعنوية، يستقطب من خلالها المزيد من المقاتلين والمتطوعين، مستغلاً تطورين رئيسيين، الأول تزايد الفوضى السياسية التي شهدتها فترة الانتخابات العراقية وما تلاها من تطورات دراماتيكية تزيد من الشرخ الداخلي وتعمق الانقسامات، والآخر هو إعاقة جهود الوساطة الروسية بين الدولة السورية وميليشيات “قسد” وجناحها السياسي “مسد”، في ظل استمرار الولايات المتحدة الأميركية بنقل المزيد من مقاتلي “داعش” من مخيم الهول في ريف الحسكة وسجن مجمع الصناعة في دير الزور إلى منطقة “التنف” لإعادة توظيفهم، وهو ما يفسر سهولة قيام التنظيم بعمليات أمنية ضد القوات الأمنية والعسكرية العراقية في الأنبار والموصل وديالى، وكذلك في عمق البادية السورية ضد الجيش العربي السوري وحلفائه. في المقابل، لوحظ مع بداية العام الحالي تزايد واضح وملموس في استهداف القواعد العسكرية للاحتلال الأميركي في سورية والعراق، وهو ما شكل رسالة واضحة بأن الفاعلين والقوى العاملة في محور المقاومة انتقلوا إلى مرحلة جديدة تشكل نواة توسيع عمليات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الأميركي، الذي يمارس تكتيك المناورة في إدعاء انسحابه من العراق ويغذي في الوقت ذاته شدة الحصار الإرهابي على سورية ويعيق تقدم المسار السياسي.
- أما التطور الأبرز، والذي قد يشكل أهم عوامل تصاعد الجبهات في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، فهو عودة معالم ترسخ الحرب الباردة بين القطبين الدوليين (الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأميركية)، فاستمرار هذا الاحتدام وتصاعد مؤشراته وعدم التوصل إلى تفاهمات أمنية وعسكرية تتعلق بمصالحهما الحيوية والجيو-استراتيجية من شأنه أن يرخي ظلاله على تصعيد الجبهات لتحسين التموضع التفاوضي لكل منهما، من دون أن يكون هناك صدام مباشر بينهما. إلى جانب استعراض القوى العسكرية والردعية الروسية ضمن الحدود الروسية ومع بيلاروسيا وصولاً لقاعدة حميميم في المتوسط مروراً بـ مناورت البحر الأسود، وتمكن روسيا من نشر قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة الأمن الجماعي في كازاخستان، وخروج التصريحات الدبلوماسية الروسية عن إطارها الدبلوماسي في حصاد دبلوماسيتها للعام 2021، وامتلاك وسيلة الضغط الطاقوية “الغاز” في العلاقة مع أوروبا، يشكل كل ذلك إحدى أبرز مؤشرات التصعيد الدولي ، ولاسيما مع إقدام الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية باستفزاز روسيا وعدم الموافقة على مطالبها الأمنية المحقة واستمرار إغداق السلاح لأوكرانيا التي تقوم بقصف إقليم دونباس لجر روسيا نحو حرب تريدها واشنطن لسببين رئيسين: الأول الزج بالاتحاد الأوروبي في حرب مباشرة مع روسيا وهو مايساعد أمريكا على استنزاف الطرفين ويضعفهما ويعيد النظام الدولي وتوازناته لما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية ويحول صيغة التقارب والتعاوني التي شهدتها علاقات الاتحاد مع روسيا مؤخراً لصيغة عداء وهو ماقد يلغي تلقائياً خط “غاز بروم2″، أما الهدف الثاني يتمثل في قطع الآمال الصينية بإنجاح مشروع “الحزام والطريق” عبر نشر الفوضى والحروب في الرقعة الجغرافية الممتدة من شرق أوروبا نحو آسيا الوسطى مروراً بغرب آسيا، فضلاً عن إنعاش الصناعات العسكرية للمجمع الصناعي الأمريكي ورفد الخزينة بمليارات الدولارات وطرح مشروع مارشال بصيغة ومقاربة تتناسب مع الوضع الحالي.
هذه المعطيات، إضافة إلى استمرار النهج الصّهيوني العنصري تجاه الشعب الفلسطيني في ملفي الأسرى الفلسطينيين، وسلب الحقوق من خلال استملاك النقب، واتساع استراتيجيته في زيادة المستوطنات، وانزعاجه من اقتراب العودة إلى الاتفاق النووي، وغيرها من السلوكيات العنصرية، قد تشكل سبباً لتصعيد الجبهة في غزة، بما يعكس حجم التوتر الدولي عبر حروب صغيرة تتعدى بأبعادها وأطرافها الأراضي المحتلة.