نازك العابد.. جان دارك السورية
هي أول امرأة سورية تنال رتبة عسكرية، وقد وصفتها الصحف الغربية بعد مشاركتها في معركة ميسلون بأنها سيف دمشق وجان دارك السورية، كما وصفها البعض الآخر بخولة تيمناً بخولة بنت الأزور، وقال آخرون إنها الوردة الدمشقية التي جعلت الرحالة والكاتبة الإنكليزية روزيتا فوريس تستمدّ من مواقفها حبكة لروايتها “سؤال” التي نشرتها عام 1922.
خير قدوة
ألقاب عديدة وصِفَت بها هذه المرأة الدمشقية: نجمة ميسلون، السيف الدمشقي المنسي، الياسمينة المنسية.. من هنا لا يمكن الحديث عن المرأة السورية دون أن تكون خير قدوة لكل امرأة لا ترضى أن تكون إلا عنصراً فاعلاً في المجتمع، وهي التي قادت الحركة النسائية، وطالبت بإعطاء المرأة السورية حقوقها السّياسية، ولَعِبت دوراً ريادياً في تأسيس عدد من المطبوعات والجمعيات النسائية في سورية ولبنان.
بنات الشهداء والنجمة الحمراء
هي نازك العابد التي ولدت في دمشق سنة 1887 لأُسرة سياسية عريقة، سكنت حي الميدان خارج أسوار المدينة القديمة، وتعود أصول عائلتها إلى مدينة معرة النعمان، وقد هاجرت إلى جنوب دمشق في القرن الثامن عشر، دَرَست في مدارس دمشق والموصل، وتَعلّمت اللغات الألمانية والفرنسية والتركية والإنكليزية والفرنسية، وأتيحت لها الدراسة في الجامعة، كما تَعَلّمت التصوير الضوئي وفن الرسم في الوقت الذي كانت فيه المرأة حبيسة جدران بيتها ولا يسمح لها بالمشاركة في الحياة الخارجية، لذلك وبعد الجامعة بدأت بالدفاع عن حقوق المرأة من خلال تأسيس مجموعة تتبنّى قضيتها وتحاول منحها حقوقها في العام 1914 كحق الاقتراع والتعليم الأفضل والاستقلال عن العثمانيين، فنفوها إلى القاهرة (النفي الأول)، حيث بقيت هناك حتى انهيار الدولة العثمانية عام 1918 وبعد زوال الحكم التركي عادت العابد إلى دمشق وبدأت نشاطها بالكتابة باسم مستعار، فكتبت مقالات تدعو إلى منح المرأة حق التصويت، وناضلت في سبيل ذلك، ونشرتها في مجلات عديدة منها “لسان العرب” ومجلة صديقتها ماري عجمي “العروس”، وتطرقت فيها إلى المرأة وتحرّرها لتكون سيدة مجتمع مثقفة تدرك ما يدور حولها، كما أنشأت مع ماري عجمي مدرسة بنات الشهداء سنة 1920 للاهتمام بأبناء الشهداء، ومعها ومع فاطمة مردم وسلوى الغزي أسّست جمعية “يقظة المرأة الشامية” وجمعية “نور الفيحاء” وناديها ومجلتها، فأصبحت أول منظمة نسائية تضمّ نخبة نساء دمشق، تدعو إلى نهوض المرأة وتثقيفها، كما شاركت العابد في تأسيس فرع للصليب الأحمر الدولي في سورية باسم جمعية “النجمة الحمراء”، والتي تحوّلت إلى الهلال الأحمر السوري. وحينما لاحظت الحكومة جهدها المستمر والدؤوب أسندت إليها إدارة ملجأ لليتامى.
حاربت في ميسلون
شاركت العابد بوعي وشعور بالمسؤولية في الحياة السياسية، فحازت ثقة الملك فيصل، وصدر أمر ملكي بمنحها رتبة عسكرية فخرية (نقيب) ليستمر نضالها ضد الاستعمار، فمع إنذار غورو بادرت إلى إنشاء مستشفى للجرحى وهيّأته في بضعة أيام، وحين قرّر يوسف العظمة مواجهة المحتل الفرنسي أبدت العابد شجاعة قلّ نظيرها، فمضت بلباسها العسكري لتكون في صفوف المقاتلين، مدافعة عن الوطن إلى جانب وزير الحربية يوسف العظمة، في ميسلون، 24 تموز 1920. ويقال إنها هرعت إليه بعد إصابته في المعركة، وأنه أسلم الروح بين يديها.
وبدخول القوات الفرنسية إلى أرض الوطن، وقفت العابد مع نساء دمشق ضد الانتداب الفرنسي الذي ضاق بنشاطها، فأغلق المجلة والنادي، ومُنعت من عقد الندوات، فما كان منها إلا الالتحاق بصفوف المقاومة السرية لمقارعة المستعمرين، فنفيت عن الوطن ثانيةً إلى اسطنبول مدة عامين (1920 – 1922)، وعند عودتها راقب الفرنسيون تحركاتها وتعرّضت لمضايقات اضطرتها للتوجّه إلى الأردن، ومن ثم إلى أميركا وعواصم الغرب، شارحةً واقع بلادها ومَطالب شعبها الوطنية، فحظيت بالإعجاب ونوهت الصحف الغربية بجرأتها وبطولتها ولقبتها بـ “جان دارك العرب”.
وبعد غياب طويل عن الوطن، عادت العابد تحت الإقامة الإجبارية، وعاشت في مزرعتها الخاصة في ضواحي دمشق، وساعدت الناس على تطوير العمل الزراعي، وأوقدت فيهم روح الثورة على المستعمر الفرنسي، فكانت أحد ثوار ثورة 1925، إذ عملت بصمت وخفاء متنكرة بزي الرجال، وحينما هُدّدت بالاعتقال هربت إلى بيروت، وهناك تزوجت، عام 1929، من محمد جميل بيهم الذي مثّل بيروت في المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في دمشق عام 1920.
انتقلت للإقامة في بيروت وأسّست هناك جمعيات اجتماعية عدة، منها جمعية المرأة العاملة، ومع تأجّج الثورة الفلسطينية الكبرى شاركت في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة، وحذّرت في كلمتها أمام المؤتمر من مساعي الصهيونية لتهويد فلسطين، لتؤسّس مع وقوع النكبة، عام 1948، جمعية تأمين العمل للاجئين الفلسطينيين. وفي السبعين من عمرها أسّست لجنة مهمتها تثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كلها، لتنتخب عام 1959 رئيسة لها، كما كُرّمت في أول احتفال بعيد الأم في لبنان، وتوفيت في العام نفسه عن عمر ناهز 72 عاماً قضتها في النضال في سبيل عزة بلادها وصون كرامتها وإعلاء مستوى وعي شعبها.
أمينة عباس