بعد 8 عقود الأمير الصغير في وطنه الأم
حكاية ليست كغيرها، وواحدة من أكثر القصص قراءة في العالم، جعلت ملايين الأطفال والبالغين يحلمون ويتأملون ويبتسمون ويبكون، إذ استطاعت رواية “الأمير الصغير” ببساطتها وتعقيدها في آن معاً أن تستمر من جيل إلى آخر، وصولاً إلى يومنا هذا.
هي تحفة المؤلف والطيار الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الأكثر ترجمة في تاريخ الأدب، اعتبرها البعض قصة أطفالٍ، والبعض الآخر حكاية للمراهقين، ومنهم من يدرجها ضمن إطار فلسفي أو حتى خيالي، أو ربما كل ذلك دفعة واحدة، ولكن المؤكد أنها تجاوزت الحكاية لتصبح أسطورة.
ومع ذلك، كان للجمهور الأمريكي امتياز اكتشاف هذه الأسطورة لكاتبها الفرنسي قبل ثلاث سنوات بالضبط من القراء الفرنسيين (نشرت الأمير الصغير في نيويورك سنة 1943 وفي باريس سنة 1946)، وذلك نتيجة ظروف الحرب، فسانت إكزوبيري، الذي قاتل، كطيار عسكري، ضد سلاج الجوي النازي خلال الحرب العالمية الثانية، اختار مغادرة فرنسا مؤقتاً إلى الولايات المتحدة، وكان من بين المثقفين والصحفيين والفنانين الفرنسيين الذين اختاروا المنفى. وحين حط رحاله في نيويورك سنة 1940، لم يكن معروفاً بعد عبر المحيط الأطلسي، وكانت قد ظهرت بالفعل بعض أعماله في المنفى، وحققت نجاحاً حقيقياً. ولأن إقامته في الولايات المتحدة كانت مطولة أصبح على اتصال بالعديد من الناشرين، وواصل نشاطه ككاتب هناك، وألف هذا العمل الأدبي الذي – وإن لم تكن نيته كذلك – أصبح الأكثر ترجمة في العالم، إذ تُرجم لأكثر من 500 لغة منها العربية.
إلا أن الطيار الذي توفي خلال مهمة في البحر الأبيض المتوسط، في تموز 1944، لم يشهد النجاح العالمي الذي حققه كتابه.
طبعاً، يحتفظ الكتاب بآثار ولادته “خارج أرضه”، سواء في إهداء إكزوبيري حكايته لصديقة الكاتب والناقد الفرنسي ليون ويرث (الصديق الذي بقي في فرنسا، ضحية للاضطهاد الألماني)، أو في المواضيع والمواقف السردية التي تتكون من: الوحدة، الموت، الاختناق، غرور القوى، والطاعة العمياء للتعليمات، والعديد من الموضوعات الأخرى التي تشكل نسيجها المتكامل.
وخلال الأحداث التي يرويها الكاتب، يواجه القراء العديد من الرموز، وهي أشياء أو أحرف أو أرقام أو ألوان تستخدم لتمثيل الأفكار أوالمفاهيم المجردة، وما يلفت الانتباه أيضاً هو الرسم المصاحب لكل فصل من فصول الكتاب.. فصحيح أنها قصة مكتوبة بلغة بسيطة، لكنها تخفي في جعبتها العديد من الرسائل للكبار قبل الصغار.
كتب سانت إكزوبيري: “لا أحب أن يقرأ الناس كتابي باستخفاف”، وهذه هي المفارقة الكاملة للأمير الصغير في كونها حكاية بسيطة جداً وعميقة جداً.
وها هي فرنسا اليوم تحظى بشرف احتضان صفحاتٍ من مخطوطة الأمير الصغير الأصلية المكتوبة والمرسومة بخط يد إكزوبيري نفسه، وذلك في متحف الفنون الزخرفية في باريس، فالمخطوطة الأصلية للأمير الصغير، المحفوظة في نيويورك في مكتبة ومتحف مورغان، استقلت الطائرة، وبغاية الاهتمام والدقة، نٌقلت وريقاتها الرقيقة (كان إكزوبيري يكتب ويرسم على أوراق رقيقة للغاية تعرف بـ “قشرة البصل”) إلى متحف الفنون الزخرفية لتُقَدم للجمهور الفرنسي لأول مرة ضمن معرض أطلقوا عليه “لقاء الامير الصغير” والمستمر حتى السادس والعشرين من حزيران من العام الجاري.
وقد خصص متحف الفنون الزخرفية – وتتويجاً لرحلةٍ رائعة – مساحة تزيد عن سبعمئة متر مربع ليحتفي بالذكرى الخامسة والسبعين لنشر فرنسا هذه التحفة الأدبية، فصفحات المخطوطة الثلاثون التي وصلت إلى فرنسا من أصل 141 تُعرض الآن إلى جانب أكثر من ستمئة قطعة تمثل العديد من جوانب شخصية إكزوبيري، كاتبا شاعرا، طيارا، مستكشفا، صحفيا، مخترعا، فيلسوفا، مدفوعا طوال حياته بمثاليته الإنسانية، وهي القوة الدافعة الحقيقية وراء أعماله.
سنا ربيع