“حكاية في دمشق”.. ملحمة الإنسان السوري المعاصر
حلب- غالية خوجة
ماذا عندما يختزلُ فيلم سينمائي الأحداث اليومية خلال العشرية الإرهابية على سورية بتفاصيلها الحياتية الشاملة، مكثفاً الأبعاد الإنسانية النفسية والاجتماعية، وما يترسّب فيها من بانوراما درامية، لتشعر أنك أمام ملحمة الإنسان السوري المعاصر الذي تخطاها ليبدأ حياته ما بعد الحرب؟.. وماذا عندما تتكامل المشاهد مع النص وهو سيناريو وحوار سماح القتال، والإخراج للفنان أحمد إبراهيم أحمد، وما بينهما من فنيات سينوغرافية وتصويرية وموسيقية وأزياء وإكسسوارات وماكياج وديكور؟.
فيلم “حكاية في دمشق” وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما – يضعنا وجهاً لوجه مع أنفسنا والمجتمع والواقع زماناً ومكاناً، منطلقاً من محاور فنية متنوعة، ليقدّم الواقع السوري بأبعاده المتعدّدة، وبإضاءات متداخلة بين الألم والمعاناة والأمل والحزن والضياع والفقدان والسعادة والتفاؤل، وذلك من خلال اعتماده على حكاية تتناسل من حكاية بتشويق وجاذبية، لتتعدّد الأحداث متوزعة على الشخصيات المحورية والثانوية التي تشبهنا، والتي جاءت بأداء جمالي عالٍ قام به الممثل السوري العالمي غسان مسعود- أبو سلمى، وشاركه بطولة الأدوار بفنيات ملفتة: جيانا عنيد، لجين إسماعيل، رنا كرم، غدير سلمان، إضافة لمشاركة ضيوف شرف هم: حسن عويتي، علي كريم، أمانة والي، غادة بشور، جمال العلي.
يبدأ الفيلم من لقطة لطفلة تحيط بها النيران، وتتكرّر هذه اللقطة 4 مرات خلال الفيلم، لتخبرنا كيف قتل الإرهاب الطفولة وأمها سلمى، وكيف استعمق هذا المشهد في ذاكرة الأب والجد “مسعود”، وجعل منه إنساناً متعباً تائهاً يبحث عن ذاته وماضيه وما مات منه، فنجده – كما يقول زيد، زوج ابنته سلمى، مهندس الكهرباء – ينسى أو يتناسى، وكيف يؤثر وضعه النفسي على محيطه، ابتداء من صهره، وصولاً إلى سكان الحارة القديمة في دمشق، فيظهر ويختفي، ويظلّ يبحث عنه زيد الذي يعيش معه في البيت، ويؤثر وضعه الغامض، في البداية، على جميع من يتعامل معه وأولهم “لينا- جيانا عنيد”، حتى المُشاهد الذي يتابع الفيلم وهو يضعنا أمام السؤال: ما قصة البطل؟ ما سره؟ ومن هذا الذي معه؟ وما حكاية الجفاف الذي بينه وبين زيد؟ ولماذا يقفل الباب عليه كي لا يخرج رغم اعتنائه به مأكلاً ودواء وبحثاً؟.
وهو ما سيكتشفه تسلسلياً المُشاهد، لكن من خلال الأحداث المتقاطعة عمودياً، ومن خلال البطلة لينا التي يدفعها فضولها وحبها للمساعدة على هذا الكشف لتساعد المتلقي والمُشاهد في تفكيك الغموض المعالج بفنية تشويقية.
وبالتدريج تتضحُ القصة الأساسية للبطل وهي موت ابنته سلمى وابنتها في نيران الحرب، واتهامه لصهره بموتهما، كردّة فعل غير متوازنة على أحداث الحرب، ثم تتفرع القصة من ذاكرة “مسعود” إلى ذاكرة “لينا” والتحامها بذاكرة جدتها المتوفاة وما ورثته عنها من فلكلور يدوي ومهارات بصناعتها، والاحتفاظ ببيت جدتها الدمشقي العريق، وحديثها مع روح جدتها عن تفاصيل حياتها، مما يجعل صديقتها المقربة مديرة صالون الحلاقة النسائية، تمازحها وتتهمها بالجنون، وتعاضدها وتفكر معها ولا تتخلّى عنها أبداً، كما تشركها بحياتها وأحلامها وانتظارها لخطيبها العسكري، وكيف ذهبت معها لاختيار فستان العرس، لكنها تفقد عريسها البطل الشهيد، فتبدو عروساً مع تابوت ملفح بالعلم السوري، وهو مشهد قدّمه المخرج بفنية شعرية وتصويرية، وهذه الفنية الجمالية هي سمة مشاهد الفيلم ولقطاته وصوره وتصويره للعالم النفسي والاجتماعي والمكاني، إضافة إلى الدقة في القطع بين مشهد والوصل بمشهد آخر، وكأنه يوظف الحالة النفسية للمتلقي شريكاً فاعلاً ومتفاعلاً، فيظل غير حزين بشكل متواصل، وغير سلبي لأنه سيفكر مع أحداث الفيلم، ويخرج بتوقعات قد تتطابق أو تختلف مع مسار الأحداث، وهذه ميزة فنية أخرى تمنح فضاء من التوقعات للخط الدرامي المتصاعد مع العديد من الاستفهامات والتنقلات بين الحزن والضحكة أيضاً.
وبدورها، برزت الموسيقا للفنان طاهر مامللي بحساسية متناسبة زمنياً وبصرياً وتفاعلياً، وتنوّعت المعزوفات تبعاً لحالة المشهد، وحالة الشخصية، وحالة التفاعل مع اللغة البصرية، مما جعل الموسيقا بطلاً آخر للصمت والكلام والحركة، بينما تكاملت العناصر الأخرى الموضوعية والفنية، وشملت بطولةً لشخصيات رمزية، منها “الذاكرة” المجسّدة من خلال ذاكرة غسان مسعود، وذاكرة مدينة دمشق القديمة بأحيائها وبيت جدة “لينا” ومهارتها في المهن اليدوية التراثية، ومحلها الذي تبيع فيه منتوجاتها، وكان لموسيقيّ يُدعى أبو جورج يعلّم الموسيقا ويبيع أدواتها، وهو الذي خرج من ذاكرة مسعود ذات حدث، كونه من علّمه العزف على العود الذي يلجأ إليه كلما ضاقت به وسائل التعبير عن نفسه، لتكون الموسيقا علاجاً إنسانياً أيضاً، ترافقها أغنية من كلمات رامي العلي، وغناء عبد الله العطفة، موظفة بطريقة مناسبة كونها تظهر وتختفي كحدث متوازٍ مع حضور وغياب الذاكرة والحكايات والأحلام والماضي والحاضر، وهذا عامل محوري فني جعل فضاءه مجالاً لتشابك التآويل مع منطوق الشخصيات وحركة الكاميرا وزوايا التصوير الأفقية والعمودية والعلوية، ليأخذنا في رحلة أخرى لحياتنا، تشير إلى ضرورة الخروج من الماضي إلى الحاضر، والانطلاق من الحاضر إلى المستقبل.
وهذا الخروج جسّدته البطلة “لينا”، خصوصاً بعدما رفع عمها عليها دعوى من أجل بيت جدتها، متهماً إياها بالاستيلاء عليه رغم أن جدتها كتبته باسمها، لكنها لا تقابل الجشع المادي والكراهية إلاّ بمزيد من الطيبة والمحبة، مصرّة على العمل في أي مكان حتى لو كان “بسطة” في الشارع، مؤكدة على المزيد من التشبّث بالعطاء والمحبة لأنهما أساس بناء المستقبل.
ولا بدّ من الإشارة إلى رمزية تصويرية ظهرت 4 مرات كمشهد سريع خلال الفيلم، وأعني تأرجح قدمين لامرأة بحذاء أحمر، ربما لن يلتفت لدلالتها الكثيرون، وما تؤكد عليه من استمرارية الحياة وحركتها ذهاباً إلى الوراء، وإياباً إلى الأمام، دون الثبات في نقطة زمانية ومكانية، لأن دوام الحال من المحال، وهذا المشهد كان ختام الفيلم مع البطلة لينا التي تحدّت الكراهية والانتقام بالطيبة والاستمرار في العمل، خصوصاً، حين تترك الأرجوحة وتمضي في أحد شوارع دمشق لتحقق ما تطمح إليه بالبناء.
لكنني ورغم ذلك، أتساءل: لماذا لم يضف المخرج أي بعد حواري إنساني في البداية بين أبو سلمى وصهره، بعيداً عن الفعل وردّة الفعل؟ ولماذا أصاب العرض الأول خلل تكنولوجي وكهربائي رغم وجود الطاقة والمولدة الخاصة بالمركز الثقافي بالعزيزية؟ ورغم الخلل ظلّ الحضور منجذباً ومتشوقاً للفيلم الذي كانت حلب إحدى محطاته ولمدة 3 أيام.