دروس من الحرب الأوكرانية دوستويفسكي، الغرب، الإعلام .. وبعض السوريين!!
البعث الأسبوعية – أحمد حسن
بالمطلق، الحرب، أي حرب، أمر سيء، لكنها برهاناتها الحديّة واختباراتها “النارية” للطموحات والأحلام والأوهام والإرادات والاستجابات البشرية في صورتها القصوى، تشكّل فرصة هائلة للصقل والمراجعة وإعادة الإنتاج ..و”الكشف” أيضاً، فبقدر ما ترفع الحرب الغطاء عن أشخاص وجماعات، بقدر ما تكشف عما تخفيه الإنسانية من تفاصيل جوهرها الحقيقي وتبرز للعلن أسوأه وأحسنه في الآن ذاته، وهذا تحديداً ما فعلته، وتفعله يومياً، الحرب الأوكرانية.
فالغرب، الديمقراطي الحرّ العلماني المتحضّر، وبعدما كشف، بتصرفاته المعلنة، عن جوهر مخططه في استخدام أوكرانيا والأوكرانيين كمجرد فخّ للإيقاع بالدب الروسي، كشف أيضاً عن جوهره الأصلي الذي لطالما خبأه طويلاً تحت قناع المدنية والتحضر الكاذبين، مستعيداً المقولة الشهيرة لشاعره “روديارد كبلنغ”: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً، و”بطريقه” هذه أوضح أيضاً، وللمرة الألف، أن روسيا ليست أكثر من شرق آخر بالنسبة إليه، وتلك حقيقة لم يصدقها بعض “الموسكوفيين” الذين ظنوا أن خلعهم للرداء السوفياتي الأحمر يفتح لهم أبواب الغرب، لكن هذا الأخير رفض صداقتهم حتى عن بعد باعتبارهم عدو أزلي لا مفر من الصدام “الهرمجدوني” معه.
وفي هذا السياق فإن صندوق “باندورا” الفضائي العالمي، خرجت منه، خلال أيام، تعتبر قليلة جداً في عمر الحروب، كل الشرور التي حاول هذا الغرب التبرؤ منها وإلصاقها بالآخرين، فبعد أن أعاد النفخ في حالة “الروسيا فوبيا”، أي الرُّهاب من روسيا القديمة في الثقافة الأوروبية الغربية -وصل “البلل” إلى “ذقن” كاتب كبير راحل منذ فترة طويلة مثل “فيدور دوستوفيسكي”-، كانت النتيجة “الطبيعية” لذلك هي خروج مطلب رسمي علني بقتل رئيس دولة منتخب، ومطلب “فلسفي” وعلني آخر بـ”إخصاء” دولة كاملة، وكانت ثالثة الأثافي إعلان فجّ عن ترحيب بالأوكرانيين اللاجئين ليس لدواع إنسانية صرفة كما يُفترض بالأمر أن يكون، بل، وبكل صفاقة، لأن “هؤلاء يشبهوننا”، والأهم أنهم “ليسوا عراقيين أو سوريين”!!، كما صرح قادة السياسة والإعلام فيه.
فلنقتل بوتين.. ولنلغي دوستويفسكي!!
ليندسي غراهام السيناتور الأمريكي المعروف طالب في سابقة غريبة وعلنية باغتيال “بوتين”!!، ولأن ذلك لم يحرك، كما لو كان الأمر معكوساً، دعاة حقوق الإنسان ومنظماتهم المتكاثرة، ولأن ذلك لم يشكل أيضاً أي داع، كما يبدو، كي “يقلق” الأمين العام للأمم المتحدة حتى الآن، فقد كان من الطبيعي، امتثالاً للمثل الشهير “إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً..”، أن تقرر جامعة مثل جامعة “ميلانو بيكوكا” في إيطاليا إلغاء ذكر الكاتب الروسي الشهير “فيدور دوستويفسكي” المتوفي منذ أكثر من قرن ونيف في قاعاتها عبر تأجيل “دورة” كانت قد أزمعت إقامتها عنه، والسبب بحسب الكاتب الإيطالي، باولو نوري، الذي كان من المقرر أن يقدم هذه الدورة : “في إيطاليا اليوم، يعتبر كونك روسياً خطأ. وعلى ما يبدو حتى أن تكون روسياً متوفى”، إذاً، حتى الروسي الميت يجب أن يدفع ثمن العنصرية الغربية و”الروسيا فوبيا” باعتبارها موضة هذه الأيام!!.
الدافع الجنسي و..إخصاء روسيا!!
وبهذا المعنى يصبح طبيعياً أن يلجأ “فيلسوف” معروف لتجاهل كل الحجج الجيوسياسية، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، لتفسير الحرب في أوكرانيا، معلناً أن الدافع الأساس هو “الجنس”!!، ففي مقال له بعنوان “هل كان اغتصاب أوكرانيا حتمياً؟” يعزو السلوفيني “سلافوي جيجك” دوافع بوتين إلى هواجس جنسية، وبالتالي يصبح الحلّ، وبحسب “الفيلسوف”، واضحاً وبسيطاً، فـ”يجب أن نعي جميعاً، نحن الذين ننتمي إلى البلدان التي عليها أن تشهد اغتصاب أوكرانيا، أنَّ إخصاءً حقيقياً فحسب هو الذي يمكن أن يمنع الاغتصاب. ولذلك يجب أن نوصي بأن يجري المجتمع الدولي عملية إخصاء لروسيا بحيث يتأكّد أنَّ لا شيء من سلطتها العالمية سوف ينمو بعد ذلك!”، وهذا أمر، إضافة إلى غرابته، فإنه يدل على خواء فكري كامل غارق في ذكورية مقيتة لطالما قدم الغرب نفسه، بفلاسفته وإعلامه، كمحارب وحيد لها.
اللاجئين الذين يشبهوننا!!
بيد أن العنصرية الغربية تجلت بأسطع صورها في الحديث عن اللاجئين الأوكران وهي عنصرية تساوى فيها رجال السياسة مع رجال الإعلام، فبينما اعتبرهم “كيريل بيتكوف”، رئيس وزراء بلغاريا: “ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، إنهم أوروبيون مثقفون ومتعلمون”، اعتذر النائب العام الأوكراني السابق “ديفيد ساكفارليدزي” عن تأثره العلني “الزائد” بأوضاعهم، قائلاً خلال مقابلة مع “بي بي سي”: «أعتذر هذا مؤثر للغاية بالنسبة لي لأنني أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يقتلون، الأطفال يقتلون يومياً بصواريخ بوتين وطائرته وقذائفه”. وأضاف “الضحايا أوكرانيون ليسوا عراقيين ولا أفغان”!!.
أما الإعلام الحر والمهني والحيادي فقد كان له، كالعادة، قصب السبق في هذا السباق العنصري، فبحسب صحيفة “الديلي تلغراف” هؤلاء: “يشبهوننا، وهذا ما يجعل المسألة صادمة. أوكرانيا بلد أوروبي، أهله يشاهدون نتفليكس ولديهم حسابات على انستغرام، ويصوتون في الانتخابات ولديهم صحافة حرة. الحرب لم تعد تحدث في المجتمعات الفقيرة المعزولة، الحرب قد تحدث لأي أحد”، فيما ظهر أحد مراسلي شبكة “سي بي أس” الأمريكية على الهواء ليخبرنا بحزن “مع كل الاحترام… هذا البلد ليس العراق أو أفغانستان، التي شهدت صراعات وحروباً لعقود طويلة ..أوكرانيا بلد متحضر نسبياً ..بلد أوربي”!، أما الإعلامية البولندية كيلي كوبيلا، مراسلة “أن بي سي” الأمريكية فلم تتردد لحظة بالقول، وهي تشرح لماذا رفضت بولونيا دخول اللاجئين في عام 2015 وسمحت بدخولهم في الأزمة الأوكرانية: “بصراحة شديدة هؤلاء ليسوا لاجئين من سورية، هؤلاء بيض ومسيحيون وقريبون من البولنديين”!!، وهذا كلام عنصري فاقع لا يحتاج إلى من يشرحه.
.. وبعض السوريين
إذاً، وبوضوح تام، يقول الغرب: “هؤلاء ليسوا لاجئين من سورية..”، لكن ذلك كله لم يغير شيئاً من “معلومات” ومواقف بعض السوريين “القاطعة” من الحرب، رغم أنهم لا يعرفون سوى ما تبثه لهم وسائل الإعلام المهيمن عبر لعبتها المعتادة الهادفة إلى صياغة الوعي و”تشكيل” المواطن السياسي وتنميطه وتوجيهه كما تريد، وتلك “صنعة” معروفة تتم عبر جمل محددة يستخدمها جميع من “يتعامل” معه هذا الإعلام، وتظل، هذه الجمل، تتكرر كلازمة على ألسنهم بما يوحي للمتلقي أنها الحقيقة التي لا يأتيها باطل من أمام أو وراء، وأنها البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان، لذلك اصطفوا، أي هؤلاء السوريون، وفق توجّه الإعلام المهيمن مرددين أكاذيبه وحججه ومصدقين رواياته و”صوره” عن الأحداث حتى لو لم يقرها المنطق أو تراجع عنها هذا الإعلام لاحقاً، وتلك صورة معبرة عن عملية الاستلاب المطلق والتام، ودليل على حاجة ماسة لقول آخر