التسويق الزراعي.. الحلول على طبق من ذهب والتنفيذ على قدم عرجاء..!
ككل عام لم تأتِ جهود ومساعي الحكومة الإسعافية المتأخرة أُكلها في تبريد قلوب مزارعي الحمضيات من جهة تسويق محصولهم بأسعار تحقق لهم هامش ربح معقولاً، ومن جهة توفير الحمضيات في السوق بأسعار مقبولة للمواطنين الذين غابت عن موائدهم هذه المادة أسوة بباقي السلع والمواد الغذائية التي باتت من الرفاهيات بالنسبة لهم، مكتفين بمشاهدتها في المحال بأسعار لم تنخفض عن الـ 2000 ليرة لأقل نوع منها، ليبقى التسويق الزراعي للحمضيات وغيرها من المحاصيل الزراعية “معادلة رياضية مستحيلة الحل” على ما يبدو من قبل الجهات المسؤولة والعقبة الرئيسية للمنتج والمستهلك معاً!.
وعلى الرغم من انعقاد مؤتمر اتحاد الفلاحين الأسبوع الماضي “ظاهرياً”، إلا أنه لم ينجح في مناقشة هموم “الإخوة الفلاحين”، كما يرغبون بتسميتهم في خطاباتهم التي اكتفت بالتذكير بدور القطاع الزراعي وأهميته في دفع عجلة الاقتصاد الوطني وتحقيق الأمن الغذائي، ليجمع ممثلو الفلاحين في حديث رصدناه على هامش أعمال مؤتمرهم الثالث عشر على همومهم المتراكمة على مدى السنوات العشر الماضية من فوائض الإنتاج الزراعي في الكثير من المحاصيل الرئيسية وعدم قدرة السوق المحلية على استيعابه وتسويقه لتفترشه الأراضي وتتغذى عليه المواشي، ليدفع الفلاح كالعادة فاتورة الخسارة الأكبر في العملية الإنتاجية في ظل نقص مستلزمات الإنتاج وغياب المحروقات وارتفاع تكاليف النقل وغيرها من صعوبات الإنتاج الزراعي، إضافة إلى تدهور أسعار مبيع منتجاتهم وخضوعهم للاستغلال من بعض سماسرة حلقات السلاسل التسويقية، وعزا البعض هذه المشكلة إلى اهتمام الوزارات المعنية بتطوير الإنتاج الزراعي أكثر من الاهتمام بتسويق المنتجات الزراعية.
حلول مجتزأة
وبعيداً عن الإجابات الرسمية المكرّرة من قبل الجهات المسؤولة، والتي أثبتت أنها لا تسمن ولا تغني من جوع، اتجهنا بإشارات استفهامنا إلى خبراء الزراعة ممن أجمعوا على تقديم الكثير من الحلول إلى تلك الجهات، لكنها واجهت تعقيدات إدارية وباءت بالفشل وبقي التسويق الزراعي “مكانك راوح”!، إذ رفض الخبير الزراعي أكرم عفيف في حديثه معنا ما سمّيناه “فشل التسويق الزراعي”، وأن ما نعاني منه هو فشل في إدارة الموارد، فالمشكلة ليست بالتسويق برأيه بل في عدم لعب مؤسسات التدخل الإيجابي دورها الصحيح، ومنها “السورية للتجارة” التي اختزلت مهامها بتوزيع الزيت والسكر والرز بدلاً من تدخلها الإيجابي وشرائها للمحاصيل وإعادة عملية تصنيعها لتحقيق ربح لها وللفلاح وللموطن، إذ يجب أن تلعب السورية للتجارة دور التاجر الرابح الأخلاقي.
ووجد عفيف أن سياسية الحلول المجتزأة لم ولن تنفع، ضارباً مثالاً بتصريحات السورية للتجارة استجرارها 100 طن من الحمضيات في اليوم للتسويق، وهذا يتناقض مع الأرقام الرسمية الصادرة بتقديرات إنتاج سورية من الحمضيات بمليون طن، ويعني بعد عمليات حسابية سهلة وواضحة أن السورية للتجارة ستبقى 10 آلاف يوم تستجر المادة كي ينتهي الموسم أي ما يعادل 27 سنة، وهذا ضللّ الفلاح والإعلام، وبالتالي فإن الحلّ برأي الخبير الزراعي في وضع سعر تأشيري للمواد، ولاسيّما أن جزءاً كبيراً من الحمضيات كان من الممكن أن يذهب للمجففات ويُصدّر للعالم، رافضاً الحجج التي يتذرّعون بها كالعقوبات وصعوبة التصدير التي لا نلحظها في استيرادهم ودخول ما يريدون من السلع والمنتجات إلى البلد ساعة يريدون، الأمر الذي يؤكد ضرورة معالجة مشكلة تسويق أي محصول قبل زراعته من خلال وجود إحصائيات عن نوع المحصول وكمية الإنتاج وحاجة السوق الخارجية ووجود الإرشاديات الفعالة، وتحسين نوعية المنتج وضبطه، وقد قامت وزارة الزراعة هذا العام بتجربة من هذا القبيل بتحديد سعر الذرة من الفلاحين بـ1050 ليرة زائد 100 ليرة مكافأة، وعليه لم يستطع التّجار رفع السعر أكثر من 1150 ليرة بعد أن وُضع سعر تأشيري.
إدارة صحيحة
وقدّم عفيف جملة حلول ممكنة لتجاوز مشكلة التسويق التي مضى عليها عشرات السنين أهمها: الإدارة الصحيحة للموارد من خلال وجود قاعدة بيانات بعدد المنتجين وكمية المنتجات والكمية المقدّرة وحاجة السوق الخارجية، مستنكراً ما يحصل في سورية والذي أطلق عليه “قتل المنتجين لمصلحة المستوردين وشركائهم من المسؤولين”.
ويرى الخبير الزراعي أن الكوارث قادمة في حال لم تتغيّر العقلية في دعم المنتجين بشكل حقيقي للوصول إلى منتج سوري منافس على مستوى العالم، خاصّة وأن عقلية صنّاع القرار على المستوى الاقتصادي متخلفة مدمرة ومعادية للمنتج السوري، وهذا ما تمّ إثباته بدعمهم للمستوردات بدلاً من دعم التصدير على عكس جميع دول العالم. ويشير عفيف إلى أهمية التوجّه إلى البدائل مثل البدائل العلفية “الشعير المستنبت وعدس الماء”، والتي تخفض تكاليف العملية الإنتاجية وتعمل على تخفيف الاعتماد على المستوردات.
زيادة الفاقد
كذلك يرى عبد الرحمن قرنفلة “المستشار الفني في غرفة الزراعة” أن عدم وجود خريطة اقتصادية واضحة للمساحات المزروعة يحدث عشوائية عند المزارعين، من حيث تحديد كمية المزروعات والاستهلاك، إضافة إلى عدم وجود دراسات مسحية لاحتياجات السوق والذي يؤدي إلى خسارة في العرض وقلّة في الطلب، كما أن النظام التسويقي غير عادل، ومعاناة المنتجين في التعامل مع السماسرة والوسطاء تشكّل عائقاً كبيراً أمام التسويق الزراعي.
وتحدث المستشار الفني عن عدم التناسب في توزيع الأسواق مع مناطق الإنتاج، وضيق الأسواق وعشوائيتها وعدم انتظامها، ناهيك عن الإهمال الكبير لجهة الفرز والتوضيب من قبل الجهات المختصة والذي يؤدي إلى رفع نسبة الهدر في المادة وزيادة نسبة الفاقد، ووجد قرنفلة أهمية كبيرة في تفعيل التسويق التعاوني وإعادة هيكلة أسواق الهال التي تعاني من تشوهات، ناهيك عن أن الوزارات المعنية بالتسويق عاجزة عن تنفيذ قرارات التسويق.
هيئة تسويقية
وتحدث قرنفلة عن حلول بادرت لها أغلب الدول عدا سورية، ومنها الزراعات التعاقدية (أي وجود شركات تسويق خاصة تتعاقد مع الفلاح لشراء المنتج تعمل مسبقاً على دراسة التكاليف التي يدفعها الفلاح مع تحديد هامش ربح لها)، الأمر الذي يؤدي إلى عدم وقوع الفلاح في فخ السماسرة، داعياً إلى ضرورة وجود صناديق تعديل الأسعار والتي تعتبر نوعاً من التعاون بين الفلاحين والسلطات المحلية في كلّ محافظة، وضرورة خلق صناديق الضمان للفلاح بحيث يموّله الفلاحون مع دعم بسيط من الدولة، ويختصّ هذا الصندوق بمواجهة التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، وخاصّة في ظل عدم وجود منظومة ثابتة محدّدة لتقدير الأضرار الناتجة عن مخاطر الآفات التي تتعرّض لها المحاصيل.
واستنكر المستشار الفني إهمال الجهات الزراعية الحكومية لملف التسويق الزراعي والذي يعتبر جزءاً مهماً من العملية الإنتاجية، وهو يسبق العملية الإنتاجية وتنتهي به، لذا من المهمّ دراسة الأسواق الموجّهة لها قبل زراعة المحاصيل مع خلق قناة تلفزيونية زراعية موجهة للفلاح تعمل على توعيته، لأن اقتصادنا قائم على الزراعة، كما يجب تأسيس هيئة تسويقية بحيث تكون أهلية مستقلة تقوم بأعمال التسويق.
ضعف تنسيق
للأسف على الرغم من أن حلول المشكلات التسويقية مقدّمة على “طبق من ذهب” أمام الجهات المسؤولة، إلّا أن الواقع يشي بعدم تحرك تلك الجهات نحو حلول ناجعة تخلّص الفلاح من أشدّ همومه في تسويق منتجه الزراعي، إذ لا يزال التسويق الزراعي يعاني من جملة معوقات، منها ما يتعلق بالبنية الأساسية، وصعوبات متعلّقة بطبيعة السوق، ومعوقات متعلقة بنوعية الإنتاج وتكاليفه، وصعوبات تصنيع المنتجات الزراعية نتيجة ضعف التنسيق بين وزارتي الزراعة والصناعة لزراعة الأصناف الملائمة للتصنيع، فضلاً عن صعوبات تتعلق بالتصدير.. وغيرها من الصعوبات التي لا زالت قيد الانتظار لحلّها منذ سنوات!.
ميس بركات