البروفيسور جون ميرشايمر: أمريكا هي السبب في أزمة أوكرانيا
ترجمة: د. أحمد جنيد
تناول البروفيسور جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، في محاضرة له المصالح الإستراتيجية الأمريكية في العالم في المناطق الواقعة خارج نطاق نصف الكرة الأرضية الغربي، والتي ستدافع عنها الولايات المتحدة عسكرياً، وهذه المناطق هي أوروبا ومنطقة الخليج العربي ومنطقة شمال شرق آسيا.
تحتلّ أوروبا المرتبة الأولى في اهتمامات السياسة الأمريكية، وتأتي منطقة الخليج العربي بالمرتبة الثانية بسبب وجود النفط فيها، وما له من أهمية في النظام الدولي. لكن إذا أخذنا بالاعتبار ظهور الصين كقوة صاعدة على المستوى الدولي، فإننا نرى أن هناك تحولاً جوهرياً في الأولويات، بحيث يكون هناك تركيز على الصين بالدرجة الأولى، ويليه الخليج العربي بالمرتبة الثانية، وتصبح أوروبا في المرتبة الثالثة. وكما هو معلوم فإن أزمة أوكرانيا تقع في أوروبا، والسمكتين الكبيرتين في هذا السياق هما ألمانيا وروسيا، وكما هو معلوم فإن هذين البلدين خاضا حروباً عديدة.
يشرح المحاضر أن أوكرانيا بلد مقسّم بين قسم شرقي يتكلم اللغة الروسية، وآخر غربي يتكلم اللغة الأوكرانية، وهذا البلد تمزقه حرب أهلية بدأت في شباط 2014 ولم يكن لروسيا أو الغرب علاقة بما يجري هناك.
في عام 2004 شهدت أوكرانيا “ثورة برتقالية” كان أساسها المظاهرات في القسم الغربي من أوكرانيا، وجرت إثرها انتخابات رئاسية أظهرت الانقسام في المجتمع الأوكراني. ولقد فاز المرشح يانوكوفيتش بالجولة الثانية من الانتخابات والتي لم تعترف بها المعارضة ولا الاتحاد الأوروبي ولا منظمة التعاون والأمن الأوروبية، ثم جرت انتخابات رئاسية أخرى في عام 2010 فاز فيها أيضاً يانوكوفيتش. وكان السؤال المُلِّح في تلك الأثناء: هل ستنضمّ أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو كما يريد القسم الغربي، أو للاتحاد الجمركي مع روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان كما يريد القسم الشرقي؟.
يرى المحاضر أن الغرب هو المسؤول الحقيقي عن الأزمة في أوكرانيا، والهدف هو إبعاد أوكرانيا عن المدار الروسي وجعلها بلداً غربياً يقف في وجه روسيا، وكما هو معلوم فلقد توسّع حلف الناتو على دفعات (1999- 2004- 2009- 2017) وعارضت روسيا فكرة توسّع الناتو من عام 1990 ولكنهم كانوا ضعفاء من جهة، والسبب الآخر هو أن هذه الدول ليس لها حدود مع روسيا، إذا استثنينا الجيب الروسي الصغير بين بولندا وليتوانيا، كما أن هذه الدول تعتبر صغيرة نسبياً. تقبّل الروس الأمر، ولكن المشكلات بدأت بعد أن أصدرت قمة بوخارست 2008 بياناً ترحب فيه بانضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الأطلسي، وحينها أعرب الروس عن معارضتهم الشديدة لهذا التوسّع، وأن هذا سيكون خطأ فادحاً، ويشكل خطراً مباشراً على روسيا، وسيكون له عواقب خطيرة على الأمن الأوروبي.
يركز الكاتب على أن القصة الحقيقية هي سياسة الغرب في إسقاط حكومات حول العالم بحجة نشر الديمقراطية، ويرى المحاضر أن الغرب يسقط الحكومات حول العالم ليس بسبب حبه للديمقراطية، بل لأن الناس المنتخبين سيؤيدونه، وهكذا يتمّ ضرب عصفورين بحجر واحد!.
كان الاتحاد الأوروبي يناقش عقد اتفاقية شراكة مع الرئيس يانوكوفيتش، وفي الوقت ذاته كانت روسيا تجري مفاوضات لعقد صفقة تضمّ روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لكن لم يلقَ هذا الاقتراح استجابة من طرف الاتحاد الأوروبي. وفي تلك الأثناء قدّم الروس صفقة رائعة للرئيس الأوكراني الذي رفض في 21 تشرين الثاني الشراكة مع أوروبا مما أجّج الاحتجاجات ضده، وجرت مظاهرات “الميدان” ورفض العديد من المتظاهرين هذا الاتفاق، وكان منهم الكثير من الفاشيين والمسلحين بشكل جيد، وهو ما أدى لخروج الأمر عن السيطرة، ودفع بوزيري خارجية ألمانيا وفرنسا لزيارة كييف والاتفاق على إجراء انتخابات أدّت للإطاحة بيانكوفيتش عن السلطة.
هناك حدثان مهمّان بعد هذا الانقلاب: قرار البرلمان الأوكراني إلغاء قانون لغات الأقليات بتاريخ 23 شباط 2014، وتحرك القوات الروسية بتاريخ 27 شباط. لم يهاجم الروس القرم لأنهم بالأساس موجودون هناك، ولهم قاعدة عسكرية في سيفاستوبول، وهناك عقد استئجار للقاعدة البحرية الموجودة هناك، وما تلاها من إجراءات استعادة القرم إلى روسيا، وهذه خطوة استراتيجية لمنع بناء قاعدة للناتو في القرم.
وبعد ذلك التهب الصراع في شرق أوكرانيا، وحينها قدّم الروس للغرب خياراً بتجميد الصراع في أوكرانيا وجعلها منطقة محايدة، وهذا مردّه إلى أن روسيا دولة نووية عظمى وليس لها أي مصلحة مطلقاً في السماح للولايات المتحدة وحلفائها في السيطرة على قطعة أرض استراتيجية كبيرة على حدودها الغربية وضمّها للحلف الغربي. وهذا الأمر ليس مفاجئاً على الإطلاق، فالولايات المتحدة تعتمد عقيدة “مونرو” التي تنادي بعدم السماح لأي دولة خارج نطاق نصف الكرة الغربي بوضع قوات مناوئة لها، وهذا بالضبط ما جرى خلال أزمة الصواريخ الروسية في كوبا في عام 1952. هل يمكننا تصوّر عقد تحالف صيني وكندي ومكسيكي بعد عشرين عاماً من الآن، مما يقود لوضع قوات صينية على الأراضي الكندية والمكسيكية، هل يمكننا تقبّل ذلك؟. طبعاً لا. لن نسمح لا لروسيا ولا للصين بنشر قوات في مناطق قريبة من حدودنا. المشكلة أن الكثير من النخب الأمريكية لا يهتمون بمسألة توازن القوى في السياسة، ولا يحسنون التعامل مع روسيا! فكيف لهم أن يتعاملوا مع الصين؟.
ومن الجدير بالملاحظة أنه ليس هناك دليل على أن الرئيس الروسي كان يتصرف بشكل عدواني قبل الأزمة وقبل توسّع الناتو، ولكن المشكلة تكمن في أن الولايات المتحدة تفكر بعقلية القرن التاسع عشر عندما يتعلق الأمر بأمنها، وعقلية القرن الواحد والعشرين عندما يتعلق الأمر بسياستها في أوروبا. لقد أصبحت السياسة الأمريكية تجاه روسيا أشد قسوة، ونتائج المعركة العسكرية والاقتصادية مفتوحة. لن يتوقف الروس، حتى لو تعرضوا للعقوبات الاقتصادية الشديدة، ولن يتخلوا عن سياستهم تجاه أوكرانيا لأنها مهمّة لهم بشكل كبير، وهي ليست كذلك بالنسبة لنا، ولهذا نراه يتصرف بشكل استراتيجي، ومرة أخرى أرى أنه ليس مسؤولاً عن هذه الأزمة.
يقول المحاضر: “المعركة في أوكرانيا معركة خاسرة، ولكن ما الفائدة حتى إذا كسبناها، والشيء المذهل هو أن أوكرانيا غير مهمّة بالنسبة لنا (للغرب)، ولو كانت مهمّة لكنا مستعدين لإعطائها ضمانات أمنية للدفاع عنها تحت البند الخامس من اتفاق حلف الناتو، وهذا يظهر مدى تخبط حلف الناتو”. إذاً الحلّ هو أن تكون أوكرانيا بلداً محايداً، وهذا أفضل من أوكرانيا مقسّمة بين الطرفين الروسي وحلف الناتو. كما يجب ضمان حقوق الأقليات وخاصة حق اللغة والتخفيف من حدة النزاع داخل أوكرانيا، ويجب إعطاء الناس في شرق أوكرانيا حكماً ذاتياً أكثر ويجب حماية حقوق الأقليات. هل سنقوم بهذا؟ الجواب بالطبع لا، هل ستكون هناك حرب باردة؟ الجواب لا.